هذا نبى الله سليمان (ص) قد أتاه الله ما لم يؤت أحد من قبله ولا من بعده، فقد أوتى من كل شىء من ملك عظيم، وعلم يحيط بما لم يتح لبشر من قبل مثل منطق الطير وغيره من الكائنات الحية.. فها هو يسمع النملة ويفهم عنها، فضلا عن هذا الحوار الثابت بينه (ص) وبين الهدهد مما يجعلنا نفهم قول سليمان (ص) ((وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ)) النمل (16) ومع هذا العطاء والتفرد وضخامة جيوشه: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) النمل (17) مع ضخامة هذه الجيوش وقيام مستويات المسئولية المتدرجة بين القيادات لكن أمانة المسئولية تفرض عليه ضرورة الاضطلاع الشخصى فيتفقد بنفسه كل الجند ليرى بنفسه الحضور والغياب، ويرى الإتقان من عدمه، كما يرى مدى الانضباط لدى الجند والمساعدين والعاملين. رغم موقع سليمان (ص) فهو باعتباره أعلى سلطة إلا أنه يتهم نفسه قبل أن يوجه الاتهام إلى الغير، انظر كيف يقول ((مَا لِيَ لاَ أَرَى الهُدْهُدَ) ؟النمل (20) لعل بصرى قد ضعف، وإذا كان بصر سليمان سليما، فالهدهد غير موجود (أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ) النمل (20) ثم ترى القائد يعلن جدوى التفقد، وأهمية الانضباط، والالتزام بمواعيد العرض والعمل لابد وأن يدرك الجميع أن المواظبة والالتزام من الأهمية والضرورة، ولذلك يبادر (ص) فيعلن جزاء الغياب أو التخلف: (لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابا شَدِيدا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) النمل (21) كما ترى القائد ملتزما بعمله لا يكتفى بالتفويض، ترى الجند أشد التزاما، فالانضباط «أسوة متبعة وعادة ملتزمة» فها هو الهدهد الغائب لم يغب للراحة أو للترفيه، أو حتى خصما من إجازاته، فلم يكن يغيب عن الواجب إلا بسبب الواجب أو ما هو أشد وجوبا منه. فالهدهد يخاطب القائد الأعلى: لقد تأخرت على العرض بسبب ما أعلم من حرصك على ما هو أهم من الانضباط فالانضباط وسيلة.. والغاية منها الإتقان والعمل والاضطلاع بالمسئولية، فحرصك على تصحيح التوحيد وضبط التقديس والعبادة ذو أولوية وأهمية لديك، وانظر الهدهد وقد تعلم ضوابط وظيفته (اليقين) اليقين الماحى للظن... رؤية العين السليمة النافية للجهالة. (وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) النمل (22) لا علم إلا عن يقين، ولا يقين إلا برؤية واضحة تزيل أى شك. ويفرغ الهدهد من تقريره عما رآه بشأن هؤلاء الذين يعبدون الشمس من دون الله حتى يبادر القائد الأعلى (ص) فيعلن أن يقين الجندى مع أمانته لا يكفى لوضع خطط وتقرير سياسات، لابد من استبيان القائد واتخاذ خطوات كاشفة (قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ) النمل (27) هكذا ترى القائد مهما علت رتبته، وتضخمت مسئوليته لا يستغن أبدا عن صفات: 1 الاضطلاع الشخصى والدورى بالمسئولية. 2 ضرورة تحقيق أعلى مستوى من اليقين. 3 دوام التذكير بالجزاء والتلويح به وممارسته.. فهل يتعلم القائمون على المسئولية ويتدرب المشتاقون لها على تلك الصفات الثلاث فلا قيادة منجزة ولا أسوة صالحة ولا استمرار لنجاح دون المثابرة الدائمة على الاضطلاع بالمسئولية شخصيا ولا دون الإصرار على تبين أقصى يقين ولا دون استمرار سريان الجزاء إيجابا وسلبا. هذا درس واحد تلقيناه من موقف واحد بين مخلوق ضعيف وها هو الهدهد وبين النبى الملك سليمان... فأين المتعلمون بل أين المثقفون الذين ملأوا الدنيا ضجيجا بما يدعونه من ثقافة واستنارة.