من النادر أن تجد موظفًا راتبًا ينتقد حكم القائم بأعمال السلطان ومساعده.. فى زمن تلذذت البشرية بعذاباتها ولاذت بالصمت خوفًا وطمعًا وذلك فى عصر أشد الأمراء حكمًا وغرابة (قراقوش مصر)، والذى كان بينه وبين ابن ممّاتى بعض العداوات، فقد قام ابن مماتى بتحويل أحكام قراقوش السياسية وضفَّرها فى كتاب نادر للنقد السياسى سابق لأوانه فى ذلك العصر ويعد من أدب السخرية الآن وهو (الفاشوش فى حكم قراقوش).. وقيل: بالرغم مما قدمه قراقوش من خدمات للإسلام والمسلمين، إلاّ أن سيرته تعرَّضت للتشويه والافتراء، من الذين ساءهم أن يساعد قراقوش صلاح الدين فى القضاء على الدولة العبيدية، ثم من قِبل الحاسدين الذين رأوا صلاح الدين يقرِّب قراقوش، ويوكل إليه المهمات، فألَّف الوزير الأسعد بن مماتى كتابا سمَّاه «الفاشوش فى حكم قراقوش»، نسب فيه إلى قراقوش أحكاما قضائية عجيبة «أقرب إلى الجور والظلم والتعجل فى إصدار الحكم منها إلى المنطق والعدل والتأنى فى البحث عن الحق). وقد شكك العلماء والمؤرخون بالأحكام التى نسبها ابن مماتى لقراقوش، فقد قال ابن العماد الحنبلى: «الأمير الكبير الخادم بهاء الدين الأبيض فتى الملك أسد الدين شيركوه، وقد وضعوا عليه خرافات لا تصح، ولولا وثوق صلاح الدين بعقله لما سلَّم إليه عكا وغيرها، وكانت له رغبة فى الخير وآثار حسنة».
ويقول ابن خلكان عن كتاب الفاشوش: «وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة، فإن صلاح الدين كان معتمدا فى أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته، ما فوضها إليه».. فأثار ابن مماتى بكتابه« الفاشوش فى حكم قراقوش» العواصف على (قراقوش) التى جعلت كل حكم جائر فاسد يُشبَّه بحكمه فلم يسلم منه حيا أو ميتا.
هو الأسعد بن المهذب بن مينا بن زكريا بن ممَّاتى.. كاتب وأديب.. وأحد علماء الجغرافيا فى عصره ومؤرخ مسلم مصرى من أهل القرن السادس الهجرى.. يرجع أصله إلى أسرة (ممَّاتى) النصرانية التى تبوأت منزلة رفيعة فى عهد الدولة الفاطمية، وهى أسرة كانت تعيش فى (أسيوط) ثم انتقلت إلى (القاهرة) للعمل فى دواوين الدولة، وقد تبوأ جد الأسعد (أبوالمليح مينا) منصب مستوفى الدواوين ونال حظوة كبيرة عند الفاطميين، اما أبوه (المهذب) فقد تولى رئاسة ديوان الجيش وأسلم أثناء ذلك. واعتنق الإسلام فى سنة 564ه، 1169م حينما تولى صلاح الدين الأيوبى حكم مصر.. وشغل ابن مماتى منصب رئيس ديوانى الجيش والمالية فى عهد صلاح الدين الأيوبى وبعض خلفائه.
وقد ولد الأسعد سنة 544ه/1149م فى القاهرة، ونشأ فى كنف والده الذى كان يعقد مجالس الفقه والأدب فى بيته، مما وثق حب الأدب فى نفسه وجعله شاعرا مثقفا ورائدا لأدب السخرية فى زمانه.
وفى عام 577ه توفى المهذب، فخلفه ابنه الأسعد فى ديوان الجيش، ثم أضاف إليه السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبى ديوان المال، الأمر الذى يبين مدى ثقة صلاح الدين فيه.
وظل الأسعد رئيسا لديوانى «الجيش والمال» فى عهد صلاح الدين، وعهدى ابنيه العزيز عثمان والمنصور محمد، حتى عاداه الوزير (ابن شكر) فى دولة الملك العادل أخى صلاح الدين، ودبر له المؤامرات، مما اضطر ابن مماتى للفرار من مصر، حيث رحل إلى حلب سنة 604ه وأقام فى كنف أميرها غازى بن صلاح الدين.
وكان الأسعد موسوعة فى الأدب واللغة، وذكر ياقوت الحموى أن له أكثر من عشرين مؤلفا، من أشهرها: (حجة الحق على الخلق فى التحذير من سوء عاقبة الظلم)، و(الفاشوش فى حكم قراقوش). أما أهم مؤلفاته وأشهرها على الإطلاق فهو كتاب (قوانين الدواوين) الذى يُعتبر موسوعة شاملة لحالة البلاد المصرية فى القرن السادس الهجرى، حيث تناول باستفاضة جغرافيتها وشيئا من تاريخها، وتفصيل نواحيها وقراها وتأصيل أسمائها، وأنظمة الحكم والدواوين والوظائف، وشئون الزراعة وغيرها، ويناقش عدة موضوعات رئيسية منها «جغرافية القطر المصرى فى العهد الأيوبى» و«أنظمة الحكم الخاصة فى عصر بنى أيوب» و«الشئون الزراعية للبلاد».. وتصدى فى كتابه إلى كثير من المسائل الخاصة بأنظمة الحكم فى عصر بنى أيوب، واستعرض وظائف الدولة المهمة وشرح اختصاص كل منها، كما أنه أتى فى الأجزاء الأخيرة من الكتاب على شذرات كثيرة طريفة عن بعض الدواوين ودور الحكومة وموارد الدولة المالية.. وظل فى حلب حتى وافته المنية فى جمادى الأولى سنة 606 ه.