في العام 564ه كانت شمس الدولة الفاطمية قد أذنت بالأفول ، وآلت الأمور فيها لصلاح الدين الذي كان علي رأس وزارتها .. هنا سنحت الفرصة ، فرصة الانقضاض علي العرش، وسعي الكثيرون للتحذير من مغبة صعود صلاح الدين إلي سدة الحكم ، وتراقصت الأحلام في رأس عبد خصي يدعي " المؤتمن" حاول قدر جهده أن يرث هذا العالم الثري وسعي للاستيلاء علي ذخائر تلك الخزائن بما حوت والقصور بما ضمت كل ماهو غالٍ وثمين ليستطيع تحقيق الحلم ببناء جيش قوي يقوم بالإنفاق عليه من تلك الكنوز .. فطن القاضي الفاضل إلي مايدور في خلد هذا العبد ، وشاركه شمس الدولة بن أيوب الأخ الأكبر لصلاح الدين بحنكة ودربة فقطعا السبيل أمام المؤتمن ليرتد علي أعقابه وليولي فراراً من أمام أناس تغدوا به قبل أن يتعشي بهم.. ولولا ذلك لاستطاع هذا العبد اسقاط صلاح الدين ويرتقي موضعه . وفي المقابل شاركهم صلاح الدين الأمر ، وقام علي الفور بتعيين صاحبه بهاء الدين قراقوش متولياً علي القصر فلم يتمكن المؤتمن ولا أي أحد من أتباعه تحقيق أي غاية . وبموت الخليفة الفاطمي انقطعت الخطبة باسمه وذكر اسم الخليفة العباسي وأصدر صلاح الدين أوامره لقراقوش بالعناية بالقصر الفاطمي وحذره بأن يعزل الرجال عن النساء لئلا يتكاثروا ويمتد ظلهم فيسعوا إلي استعادة ملكهم ، فأمر قراقوش بنقلهم إلي قصر دار برجوان. وجاءت الفرصة سخية لقراقوش فراح يصول ويجول في ساحة القصر الفاطمي فرأي بعينيه عالماً زاخراً بما لا يمكن أن يدور بخلد إنسان من ملابس بأنواعها المختلفة وجواهر تذهب بالبصر ومنسوجات لا مثيل لها وتماثيل صنعت بمهارة فائقة من البلور غير كثير من التحف النادرة علي كل شكل ولون ، ناهيك عن كؤوس من حجر اليشب إذا وضع السم في شربها تغير لون الكأس وبانت حقيقة ما فيه . ... ثم دارت رأسه حين دخل إلي مكتبة القصر المنيف ، مكتبة قلما رأي مثيلاً لها في أي مكان بالعالم. ولما كان معروفاً عن بهاء الدين الأسدي نسبة إلي سيده أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي الذي اشتراه ورباه في كنفه أنه جندي جريء مقدام إلا أنه كان يفتقد الدراية بعالم الأدب أو عرف معناه ، فقد استغل ذلك بعض المقربين منه وصبوا في أذنيه الكثير من الوشايات المغرضة بأن المكتبة في حاجة للتهوية لئلا تقضي عليها العتة فتتلفها وتأتي علي مافيها . وبدأت يد الإثم تعيث فساداً بالمكتبة بعد أن آل أمرها إلي مجموعة من التجار استطاعوا نهبها نهباً منظماً وبلصوصية فاعلة.. كانت المكتبة مرتبة ترتيباً صحيحاً وتم فهرستها بشكل علمي وفق قواعد الفهارس العربية إلا أن اللصوص وما أدراك ماللصوص فلهم من الحيل ما لا يخطر علي بال أو يخطر علي خاطر بشر حتي لو ارتدوا حلل التجار ، فقاموا بلعبة خطرة لتحقيق مايدور في رؤوسهم بأن قلبوا المكتبة رأساً علي عقب فاختلطت كتب الأدب بكتب السحر والنجوم والشعوذة مع كتب الشرع ، وكتب المنطق بكتب الطب والهندسة والكتب المشهورة بالكتب المجهولة. ومما يورده المؤرخون في هذا الصدد التأكيد علي أن هناك من الكتب مؤلفات تحويها الخزانة يشتمل كل كتاب علي خمسين أو ستين جزءاً مجلداً فإذا فقد منها جزء لا يمكن تعويضه بحال مرة أخري . استطاع اللصوص بمهارة وحذق والدلالون بقدرة فائقة خلط الأوراق وإدعاء فقدان أجزاء من هذه المجلدات. وحُملت أطنان من الكتب الي الأسواق لتباع بأبخس الأثمان بعد أن حصلوا علي مرادهم وغايتهم من كل هذه الكتب وباعوها بأثمان باهظة. كل هذا حدث بعد أن لعبوا برأس الجندي الجريء الشديد المراس الذي لا تربطه بالكتب أي علاقة من قريب أو من بعيد ، وبعد أن أوغروا صدره بأن هذه الكتب تدعو إلي التطرف والتشيع بينما صلاح الدين هو الذي سعي للقضاء علي المذهب الشيعي الذي أتت به الدولة الفاطمية التي سادت ثم بادت . عمل قراقوش بكل جهد لتنفيذ أوامر سيده صلاح الدين وجعل يومين في الأسبوع يتم فيهما بيع هذه الكتب ، واستمر البيع وفقاً لذلك حتي استغرق مدة عشر سنوات بيعت فيها ذخائر وأمهات الكتب وكلل الجهد الذي بذله قراقوش بالنجاح فنال رضا سيده إلا أنه حافظ علي نفائس القصر وبذل كل العناية ليصونها من الضياع والفقد. وقد استطاع القاضي الفاضل أحد الأضلاع المساعدة لتعضيد مُلك بني أيوب في مصر إلي جانب إخلاص الجندي الباسل بهاء الدين قراقوش وعيسي الهكاري الفقيه العظيم استطاع القاضي والهكاري في الظفر بنصيب الأسد من هذه الثروة التي لا تقدر بثمن واحتفظا بآلاف من هذه الكتب قبل أن تقع في براثن التجار ، وأسس القاضي الفاضل مدرسة فخمة سماها باسمه وخدم بها المذهب السني الذي أسس له صلاح الدين في مصر وسعي لنشره وقضي علي جميع المذاهب التي كانت سائدة في ذلك الوقت لئلا تناهضه . وقد كان من أسباب التفريط في خزانة الكتب الفاطمية في الأساس يرجع إلي سببين أساسيين أولهما أن قراقوش ليس له دراية بالأدب أو بعالم الكتب فهو طيلة حياته لم يخرج عن كونه جندياً غارقاً حتي أذنيه في دنيا العسكرية ، وثانيهما أن صلاح الدين نفسه كان يخشي من تداول هذه الكتب بين العامة فأساء الظن بها ولم يهتم بحفظها قدر اهتمامه بمسألة بيعها والحصول علي أثمانها. ومهما يكن من أمر بهاء الدين قراقوش فلا ننسي أبداً أنه كان رجلاً جاداً في أي عمل أسند إليه رغم ماكتبه عنه المؤرخ ابن مماتي في كتابه " الفاشوش في حكم قراقوش"..