فى سيرته «طائر على سنديانة» التى صدرت عام 2003، يبدأ كمال الصليبى أحد أكبر المؤرخين العرب اللبنانيين (2 مايو 1929 1سبتمبر 2011) والذى اشتهر بكتابه المثير للجدل: «التوراة جاءت من جزيرة العرب» بالبحث عن جذور عائلته التى يرجع أصلها إلى عشيرة الصليبى التى يرد ذكرها فى التاريخ الذى كتبه البطريرك اسطفان الدويهى، والتى كانت تقطن عين حليا وهى قرية داخل سوريا قرب الحدود اللبنانية الحالية، قبل أن تتفرق العشيرة وينزح بعضها إلى جبل لبنان. أما انتماء العائلة إلى المذهب البروتستانتى فيرجعه إلى جد والده سليمان الذى خدم القس الإنجليزى جون لوذيان، فتحول سليمان وأخوه الياس إلى البروتستانتية والتبشير بها، وانخرط أبناؤهم فى المدارس التى افتتحتها الارساليات الإنجليزية. وبذلك فإن البيئة البروتستانتية الصغيرة الحجم بالنسبة إلى الطوائف المسيحية الأخرى فى جبل لبنان كانت بيئة متعلمة. وبالإضافة إلى الأحوال العائلية والدينية، يولى كمال الصليبى أهمية لمكان نشأته وهى بلدة بحمدون فى جبل لبنان، التى كانت شهدت نموّا ملحوظا بعد عام 1860 بسبب شق طريق الشام التى تصل بيروت بدمشق، وكانت بحمدون تقع على مقربة من هذه الطريق. ويقدم الصليبى فى سيرته وصفا ممتعا لحياة القرية فى بحمدون والتى كانت تحولت إلى مصيف للعائلات البيروتية فى الفترة التى نشأ فيها المؤلف. إلى ذلك فإن بحمدون ومحيطها مثال للتنوع الدينى والطائفى اللبنانى حيث يتعايش المسلمون مع المسيحيين والدروز مع الموارنة.
لكن بيروت، وخصوصا رأس بيروت حيث المنطقة التى نمت بفضل قيام الجامعة الأمريكية فيها، هى مسرح حياة كمال الصليبى، وقد نزل للدراسة فيها فى العام 1938 1939، أى قبل أن يبلغ عامه العاشر. وكانت منطقة رأس بيروت بيئة مختلطة من المسلمين والمسيحيين وحيث يقطن العديد من العائلات المنتسبة إلى البروتستانتية.
إن سرد الصليبى لوقائع أيامه الأولى فى المدرسة البيروتية ممتع، ففى مدرسته تلك كون أول الأصدقاء من جميع الأديان ومن العرب الذين وفدوا إلى بيروت للدراسة. وقد أمضى جل سنوات حياته فى هذه المدينة التى كانت تنمو وتزدهر وخصوصا بعد الاستقلال عام 1943 الذى شهد فصوله كطالب، كما شهد ازدهار بيروت كعاصمة ثقافية وكمدينة شهدت العديد من التوترات كما شهدت بزوغ التيارات الأيديولوجية فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين.
كانت سنوات الجامعة الأمريكية التى دخلها طالبا عام 1945، وهى الجامعة التى كان يرتادها الطلبة العرب واللبنانيون على السواء، تضج بالاتجاهات الأيديولوجية، وكان أساتذته من كبار المعلمين العروبيين أمثال قسطنطين زريق ونبيه أمين فارس وزين نور الدين زين وغيرهم. وكان فى الجامعة آنذاك طلاب مثل جورج حبش العضو فى جمعية العروة الوثقى والذى أصبح زعيم حركة القوميين العرب.
يضاف إلى ذلك ذهابه إلى بريطانيا للدراسة، وتتلمذه على برنارد لويس الذى ذكر له: سوف أعطيك اسنادك على الطريقة الاسلامية التقليدية: انت اخترت العلم عنى، وأنا أخذته عن هاميلتون جيب، وهو أخذه عن توماس أرنولد الذى أخذه عن سيلفستر دوساسى. وتمنى عليه أن يحافظ على مستوى فى العمل يتناسب مع هذا الإسناد.
كان الصليبى اقترح على أستاذه موضوعين، الأول عن الميتولوجيا فى جزيرة العرب والآخر عن المؤرخين الموارنة فى العصر الوسيط، ولأن الموضوع الأول ينتمى إلى الميتولوجيا، فقد اختار الأستاذ المشرف وهو لويس الموضوع الثاني. ولا شك بأن الأطروحة التى أعدها الصليبى كانت نواة كتابه (تاريخ لبنان الحديث) الذى صدر عام 1965، وكان هذا الكتاب بمثابة رواية شبه رسمية أثارت انتقادات مؤرخين ونقاد وخصوصا من المسلمين.
فى تلك المرحلة كان الصليبى أقرب إلى الفكرة اللبنانية بصياغتها المارونية. وبالرغم من أنه لم يكن قريبا من أوساط المارونية، ويعتبر نفسه عربيا بالمعنى العشائرى والاثنى للكلمة، إلا أنه وحسب مذكراته ناهض القومية العربية المتشددة التى كانت الجامعة الأمريكية حقلا خصبا لها فى خمسينيات القرن العشرين. فأسس النادى اللبنانى ضم إليه أولئك الذين لم تجذبهم الأيديولوجيات القومية العربية أو السورية.
ويمكن أن نعتبر الصليبى مؤرخا متخصصا بتاريخ لبنان الحديث، فبالاضافة إلى أبحاثه المنشورة فى مجلات تاريخية متخصصة، فقد نشر بعد ذلك بفترة طويلة كتابين تناولا تاريخ لبنان فى نوع من إعادة النظر، الأول هو (منطلق) تاريخ لبنان 1979 والثانى (بيت بمنازل كثيرة) 1989. وقد أحدث الكتابان عند صدورهما أصداء واسعة، ذلك أن الصليبى أعاد النظر ببعض المسلمات الشائعة، وخصوصا لجهة حضور الموارنة فى التاريخ اللبنانى. إذ نفى كل النظرية حول حضور الموارنة فى القرن السابع الميلادى، وأرجع حضورهم فى لبنان ونزوحهم من وادى العاصى إلى القرن العاشر الميلادى قبيل الغزو الصليبى لساحل بلاد الشام. بالاضافة إلى مراجعة جذرية للخرافات حول السلالة المعنية والأمير فخر الدين.
إعادة النظر هذه هى من نوع إعادة النظر فى تاريخ التوراة. وصلة الصليبى بالتوراة متعددة الأوجه، فهو بروتستانتى أى يتبع العقيدة التى تعتبر التوراة مرجعا مقدسا مثل الإنجيل، وكان خلال دراسته فى الجامعة الأمريكية قد قرأ التوراة كمؤرخ مستعينا بأستاذه أنيس فريحة الخبير باللغات السامية القديمة. ومن جهة أخرى فإن الصليبى كان أبدى اهتماما بالمثولوجيا فى بلاد العرب، كما كتب تاريخ الجزيرة العربية. إلا أن كتابه «التوراة جاءت من الجزيرة العربية»، فقد أحدث دويا هائلا، ذلك أنه يخرق قواعد راسخة فى البحث التوراتى، ولهذا فإن رفض نظريته جاء من تلك المؤسسات البحثية الغربية التى تعتنى بالتوراة واعتبرته متدخلا فى شأن لا يعنيه، وقد رفضت نظريته من أطراف عربية لأسباب أخرى. وفى جميع الأحوال فإن نظريته المبنية على البعد اللغوى وتشابه أسماء الأماكن مثيرة للجدل وقد وقعت فى سجال سياسى لم يكن الصليبى نفسه معنيا به.
لابد أن نذكر فى هذا السياق أحد كتبه الأخرى المثيرة للجدل أيضا وهو (البحث عن يسوع) وهو أقرب إلى التحقيق البوليسى المستند إلى الأناجيل ومقارنة نصوصها بعضها ببعض، ويتوصل فيه إلى أن ثلاثة أشخاص كانوا يعرفون باسم المسيح، الأول هو عيسى بن مريم، ويسوع الذى من نسل الملك داود، الذى جاء من وادى الجليل بالطائف (الحجاز) وحلب فى القدس وهناك إله العيسى أو الخصوبة فى الحجاز.
وعلى هذا النحو فكك المعتقد المسيحى حول صلب عيسى بن مريم مما أثار ردود فعل كثيرة عند صدور الكتاب فى الأوساط المسيحية.
كمال الصليبى نتاج البيئات والتجارب التى عاشها، فهذا اللبنانى العربى، الذى جمع فى شخصه ابن القرية (بحمدون) والمدينة (بيروت) البروتستانتى المنفتح على أبناء الطوائف الأخرى، والمتصل بالثقافة الإنجليزية وتقاليد الاستشراق الغربى والبريطانى خاصة، المتعلق ببلده والرافض لمغادرته فى أحلك الظروف وأصعبها، والرافض للعروض المغرية للتعليم فى الجامعات الأمريكية.
إلا أن العنصر الذاتى هو ما يميزه، كان متواضعا مقبلا على العلم والبحث، قليل التأثر بالأيديولوجيات التى شهدها فى صباه وشبابه وكهولته، ولهذا أمكنه أن يتراجع أو بالأحرى، يطور أفكاره حول تاريخ لبنان. بالضد مع الأفكار الشائعة والمتداولة التى تحولت إلى مذهب سياسى.
فى مكان ما كان ينقلب على الاسناد الذى ذكره له برنارد لويس، أراد أن يتحرر من تقاليد الاستشراق الغربى، ومن هنا كان كتابه عن التوراة وعن المسيح، أراد أن يكون رأس مدرسة عربية فى موضوعات طالما احتكرها الاستشراق الغربى.
كان الصليبى المؤرخ اللبنانى، ومؤرخ لبنان الحديث، وأستاذ تاريخ منطقة الشرق الأوسط، رجل علم من الطراز الأول بذل حياته فى خدمة التاريخ، كان قليل التأثر بالأيديولوجيا وأثرها فى التاريخ. وإذا كان لنا أن نقيم أثره ففى منهجه النقدى وعبارته البسيطة التى تعكس جهدا علميا فائقا.
وعلى أهمية النتائج التى توصل إليها، وإثارتها للجدل فإن ما تركه لنا الصليبى هو منهجه الذى هو أقرب ما يكون إلى منهج ديكارت فى التحليل والتركيب، وهذا يعنى أن مصادرنا التاريخية إذا ما أحسنا استخدام المنهج يمكنها أن تكشف الكثير من الحقائق التى تغير من بديهياتنا الثابتة.