«وإيه يعنى لما أكون من مطاريد الجبل مش ده أحسن من الحبس والبهدلة»، بصوت متهدج من شدة الانفعال تحدث ابن الوادى الجديد الذى صدر ضده حكم بالحبس 3 سنوات بعد عجزه عن سداد قروضه لدى بنك الائتمان الزراعى. حاول إخفاء مشاعر الخوف من مصير غامض يهدده وأسرته فقال: «أنا مبخفش من حد ولا من الحكومة.. بس نفسى أمشى ف بلدنا مرفوع الرأس»، ثم شرد بنظره بعيدا وتمتم بصوت خافت «آه مبخفش من حد». اليأس والقلق وشبح السجن لا يواجه الرجل وحده، فتلك حالة من بين العشرات من مزارعى مركز بلاط التابع لمحافظة الوادى الجديد، الذين زج بهم فى السجون بعد أن تعثروا فى سداد قروض بنك التنمية والائتمان الزراعى بالمحافظة، فيما هرب آخرون المزارعين وأصبحوا مطاريد الصحارى، أو نزحوا إلى القاهرة بحثا عن مأمن فى زحامها ومناطقها العشوائية.
صدر الحكم ضد هذا الرجل الهارب الذى رفض ذكر اسمه خشية الملاحقة منذ فترة قريبة، وهو موظف بأحد فروع المصالح الحكومية بالوادى الجديد.. كيف هرب إلى القاهرة؟ وكيف استطاع أن يسوى أموره مع المصلحة الحكومية، التى يعمل بها ويحصل على إجازة؟ أسئلة رفض المزارع المتعثر ذكر تفاصيلها، لكنه قال: «هربت وخلاص زى ما غيرى هربوا.. المحاكم مليانة قضايا ضد الفلاحين المتعثرين مع البنك، وللأسف رئيس البنك يردد للرأى العام فى الجرايد إن مفيش حد محبوس»، فى إشارة إلى التصريحات التى رددها رئيس بنك الائتمان الدكتور محسن البطران، بأن إجراءات تصالح البنك مع المتعثرين أسفرت عن الإفراج عن أكثر من 25 مزارعا ممن تثعروا فى السداد لدى البنك.
مشكلة الرجل، الهارب، بدأت مع آلاف المزارعين بالوادى الجديد منذ أكثر من عشر سنوات، حين بدأت المياه الجوفية، التى يعتمدون عليها فى زراعة أراضيهم فى الجفاف، فاضطروا إلى جلب آلات لحفر الآبار على مسافات أكثر عمقا وبتكاليف زائدة، لكن المياه ظلت بعيدة عنهم وواصلت شحها، حتى تحولت مساحات كبيرة من الأراضى، التى كانت تنتج الموالح والزيتون والقمح، إلى أراضى بور، فخسر الفلاحون محاصيلهم وعجزوا عن سداد الديون التى تراكمت عليهم.
فى البداية، اقترض الرجل 10 آلاف جنيه من البنك عام 1995، وكان منتظما فى سداد الدين فى السنوات الأولى، حسب قوله، وأمام مشكلة جفاف الآبار بدأ يخسر من «الفلاحة» وتعثر فى سداد دينه، لكن موظفى البنك أفنعوه باقتراض مبالغ أخرى من البنك لتسديد قرضه الأول مع الفوائد المستحقة، فيما يعرف بالقروض الدوارة، واضطر للاقتراض مجددا، وسدد الرجل أضعاف المبلغ الذى اقترضه وبما يزيد على 60 ألف جنيه، لكن الفوائد والقرض المتراكم زاد، والآن صار مطلوبا منه أن يسدد 135 ألف جنيه خلال 10 سنوات.
منذ التسعينيات، وفق ما قال محمد عطية، نقيب الفلاحين بالوادى الجديد، ل«الشروق»، حصل المزارعون على قروض من بنك الائتمان الزراعى بضمان الأراضى، لبدء عمليات الاستصلاح فى الأراضى الجبلية، وواجه المئات منهم مشكلة سداد الديون للبنك، بسبب التوقف عن الزراعة أو تعطل ماكينات رفع المياه أو الجفاف التام، إلا أن السبب الأهم هو عدم وجود مراكز تسويق فى المحافظة.
يبعد مركز بلاط عن أقرب محافظة، وهى أسيوط، بحوالى 560 كم تقريبا، وبحسب عبدالسلام محمد، أحد مزارعى الوادى الجديد، يواجه المزارعون مشكلات عديدة فى تسويق محاصيلهم، حتى إنهم فى بعض الأحيان يبيعونها بأسعار تكاد تغطى تكاليف إنتاجها، وفى أحيان أخرى تتلف قبل أن تسافر إلى أسيوط أو القاهرة، فضلا عما يواجهه المزارعون من مشكلة انقطاع التيار الكهربى، الذى قاموا بمده منذ البداية على نفقتهم الخاصة.
من جانبه، أكد الدكتور محسن البطران، رئيس بنك التنمية والائتمان الزراعى، ل«الشروق» أن البنك أوشك على الانتهاء من تطوير سياساته الائتمانية فى أربع مناطق هى سيناء والبحر الأحمر والوادى الجديد وبورسعيد، وأضاف «سنبدأ فى تنفيذ تلك السياسات على أسس تضمن عدم حبس الفلاحين.