فى تقديمها للكتاب تربط د. نوال السعداوى بين الثورة والأدب قائلة «الثورة الحقيقية تغير الأدب والفكر والفن بمثل ما تغير السياسة، بل إن الثورة فى الفن والأدب والفكر هى الأقوى والأعمق والأبقى فى كل مكان وزمان»، فهذا الكتاب الذى يضم متتالية قصصية تحت عنوان «الشوارع الجانبية للميدان» الصادر حديثا عن دار الربيع العربى للكاتب الصحفى والناشط النسوى طارق مصطفى غير معنى برصد أحداث الثورة، لكن يظل مقترنا بما يعرف بأدب الثورة، فهو يرصد ثورات من نوع خاص فى حياة اشخاص استثنائيين، ربما يفضل المجتمع أن يتجنب ذكرهم أو الحديث عنهم فيهمشهم المجتمع فى الشوارع الجانبية؛ لأنهم خرجوا عن طوعه، تتجول بين قصصه فتشعر وكأنك تتجول فى الشوارع الجانبية لميدان التحرير وصولا إليه، كل قصة تقودك إلى الميدان بشكل أو بآخر وتصاحبها بورتريه لصاحبها يشبه جرافيتى الثورة فى الشوارع المؤدية إلى الميدان. سبع عشرة قصة لسبعة عشر بطلا وبطلة هم ليسوا رموزا للثورة، لكن ثوراتهم الشخصية والمجتمعية إلى جانب صراعاتهم مع بعض الأعراف والتقاليد بدأت قبل حدوث الثورة بزمن، بعضهم نجح فى هدم بعض الجدران واستكمل هدم الحائط الأخير فى الميدان، والبعض هرب من المواجهة فاستسلم لتنميط المجتمع له، والبعض الآخر افاقته الثورة من يأس وعزوف على مواجهة النفس والمجتمع نتيجة لاختلافات تبدو صادمة للبعض، فاستعادوا أنفسهم التى انهكها الصراع.
يستسلم فادى فى «دوائر آمنة» لقهر أسرته ويتراجع عن أحلامه الاستثنائية بأن يعمل بالسينما فيقنع نفسه بأنه قد أصبح جزءا من المجتمع الذى طالما رغب فى التمرد عليه فيتحول إلى شخص تقليدى تماما ويبرر لنفسه عملا لا يحبه وحبيبة لا يحبها وحياة لا يرغب فيها وكى يهرب من مواجهة نفسه يوجد لنفسه بعض الدوائر الآمنة كحائط دفاع تمنعه من الخروج عن السياق والعودة إلى المواجهة التى أرهقته، وحتى حين تنشب الثورة يجد لنفسه مبررا لعدم المشاركة فيها، إلى أن يطرأ حدثا يخترق دوائره الآمنة، فيقرر تحدى والده ومجتمعه واستعادة نفسه. أما منى التى خضعت أيضا لسلطة الأخوة واستسلمت لها فى قصة «غرباء» منتظرة غريبا ثوريا قابلته بالمصادفة وأنقذته من الموت حين اختلست دقائق فى الميدان دون علم أهلها فصادف يوم موقعة الجمل، انتظرت أن ينقذها من نفسها المستسلمة لواقع فرض عليها بالسجن فى إرادة الأسرة المغايرة لأحلامها وحريتها وحتى رغبتها فى المشاركة بالثورة، فلا يأتى منقذها ولكنها تستطيع تغيير واقعها فى النهاية بشكل ما، أيضا فى قصة «أسود فى رمادى» حوار عابر بين ماريان وجار لها يضعها أمام حقيقة تتعلق برؤيتها لنفسها فعلى الرغم من اعتقادها الدائم بأنها مختلفة عن الآخرين إلا أنها تكتشف أنها تنظر لنفسها بعيونهم فتعيش فى دور ضحية لا يلائمها بل وتبذل جهدا كى تصبح على شاكلتهم كأن تفقد وزنا مثلا حتى تصبح جميلة بمعايير المجتمع، فلا تنجح فى ذلك فتشعر بالسوء تجاه نفسها، لكن ذلك الحوار العابر ينجح فى تغيير حياتها.
قصص عن الخوف الذى يفرضه ويربيه الأهل ومن ثم المجتمع مثل يوسف فى قصة «جيفارا المنصورة» الذى يعده الثوار فى الميدان واحدا من نجوم الميدان فى حين أنه خلف ذلك خوفا من أمه التى لا تعرف أنه يشارك فى الثورة، وأخرى عن قسوة المجتمع فى فرض قواعده التى لا يمكن لأحد الخروج عليها مثل قصة «عرش الرحمن» و«ملعقة ساخنة» فى القصة الأولى يقهر أحمد الطفل الذى لم يجاوز الخمس سنوات حين يفتضح أمره وهو يحاول مع صديق يكبره بخمس سنوات اكتشاف أجسادهما وأعضائهما الغامضة عليهما فيعاقب على الأمر بشدة تتسبب فى عقدة له مدى حياته، وفى القصة الثانية تحاول فدوى فعل نفس الأمر مع قريبة لها فتعاقب بلسعة بملعقة ساخنة فى فرجها.
يذهب بنا طارق إلى أكثر الحالات اختلافا عن المجتمع وربما صادمة له فيحكى فى قصة «ابن موت» عن البلطجى الذى يهابه الجميع ويقابل محمد الذى يسكن فى منطقته وهو يعانى ضعفا فى جسده فيمنعه والده من الخروج. عالمان متناقضان تماما لكن كل منهما يجد ما ينقصه فى الآخر فتنشأ علاقة مثلية بينهما تتحدى ما يحيط بهما من تقاليد، يرى محمد فى حمو «البلطجى» حريته التى يسعى إليها، ويرى البلطجى فى محمد الصدق والبراءة التى تنقصه، ينتقان إلى العيش معا ولكن محمد يموت بعد أيام، يحكى طارق درجة أخرى من الاختلاف فى قصة «كارمن شبرا» عن ليلى المستقلة القوية التى تركت أسرتها لتعيش وحدها فتعامل معها الرجال على أنها رجل مثلهم فهى ليست الشخصية الضعيفة التى تحتاج إلى المساعدة فدفعت ثمن ذلك فى علاقات فاشلة، بينما تعامل معها المجتمع على أنها عاهرة.
يلتقى جميع أبطال الكتاب فى الميدان الذى مثل لهم جميعا حلم الحرية، ربما تشاركوا جميعا فى اختلافهم عن المعتاد وإن بدرجات، وتشاركوا جميعا فى الصراع مع المجتمع بدرجات من الفشل والنجاح، يخرجون من دوافعهم الشخصية عبر الشوارع الجانبية للميدان وصولا إلى دوافع أعم وأشمل تضمهم وتضم ثوار آخرين لهم دوافع أخرى، فيبقيهم فى الميدان ما يواجهونه من قهر ومَن يتساقطون بجوارهم شهداء.