عندما يقرأ المواطن المصرى عناوين الأخبار الاقتصادية خلال عام من الثورة، يعتقد أننا بصدد حكومات ثورية، أخذت على عاتقها تنفيذ مطالب الميدان، من تطبيق حد أدنى وأقصى للأجور، والغاء لدعم الطاقة على الصناعات كثيفة الاستهلاك، ومكافحة للفقر، وكبح للممارسات الاحتكارية، ولكن سريعا ما سيطوى المواطن الصحيفة ويقول إنه «كلام جرايد»، لأن سياسات حكومات ما بعد الثورة كانت ثورية فى عناوينها فقط، والشيطان يكمن فى التفاصيل. «حد أدنى للأجور للى ساكنين فى القبور» كانت من أولى شعارات الثورة التى بادرت الحكومة بتلبيتها، إلا أنه كان هناك فارق بين الحد الأدنى الذى طالب به الميدان، عند 1500 جنيه، والحد الذى أعلنت عنه الحكومة فى يونيو الماضى، عند 750 جنيها، واقتصر تطبيقه على الجهات التابعة للدولة «هذه الخطوة لم تسهم الا بشكل بسيط فى تحسين مستويات معيشة المصريين، لأن النسبة الأكبر من العمالة المصرية ستجدها فى القطاع الخاص أو القطاع غير الرسمى، هذا بخلاف من لا يجدون عملا بالأساس» تقول هانيا الشلقامى، أستاذة اقتصاديات العمالة بالجامعة الأمريكية، مشيرة إلى أن الحكومة لم تجر أية تطويرات فى سبيل تقديم رؤية متكاملة للحماية الاجتماعية كتقديم اعانة للعاطلين ودعم بالتحويلات النقدية المباشر ووجبات ساخنة للأطفال فى المدارس. وجاءت استجابة الحكومة للشق الثانى من الشعار الثورى «حد اقصى للأجور للى ساكنين فى القصور» متأخرة بنحو ستة أشهر، حيث طرحت الفكرة للنقاش مع كل من وزيرى المالية سمير رضوان وحازم الببلاوى، حتى أعلن ممتاز السعيد عن تطبيق حد أقصى للأجور ب36 ضعف الحد الأدنى فى القطاع الحكومى «لا أعرف على أى أساس تم تحديد تلك النسبة، ألم يكن 25 أو 30 ضعف الحد الأدنى للأجور كافيا لتوفير أجور جيدة للقيادات العليا؟» تتساءل هناء خير الدين، المديرة السابقة للمركز المصرى للدراسات الاقتصادية.
كما استثنت الحكومة قطاعات تتميز بارتفاع الرواتب فيها، كالقطاع المصرفى التابع للدولة، من تطبيق الحد الأقصى «كان الممكن تطبيق الحد الأقصى بالقطاع المصرفى، وإذا رفضت القيادات المصرفية ذلك نستطيع أن نعتمد على قيادات من الصف الثانى» كما تضيف خير الدين.
تغييرات ضريبية متواضعة
العدالة الضريبية، كانت أيضا من القضايا التى بادر أول وزير للمالية بعد الثورة، فى طرحها لاظهار تواصل الحكومة مع الميدان، وبعد أن كان وزير مالية الرئيس المخلوع، يوسف بطرس غالى، يكرر فى تصريحاته أنه لا رجعة عن الضريبة الموحدة، عند نسبة 20%، أصبح لدينا ضريبة تصاعدية، ولكن بزيادة 5% فقط على الشرائح التى يزيد دخلها عن 10 ملايين جنيه سنويا، بينما يطالب بعض رجال الأعمال بأن تصل إلى 30%، وطرح رضوان على استحياء فكرة الضريبة على الأرباح الرأسمالية ثم سحبها تحت ضغط رجال الأعمال، بالرغم من أن حسن هيكل، الرئيس التنفيذى ل«اى اف جى هيرميس» لتداول الأوراق المالية، قال إنه من غير العدالة أن تظل استثمارات البورصة معفاة من الضرائب، كما تم تأجيل تطبيق الضرائب العقارية بالرغم من أنها من السياسات القليلة للنظام السابق التى اتفق عدد كبير من الخبراء الاقتصاديين على عدالتها لأنها تمس بالأساس الشرائح الغنية فى المجتمع، «المشكلة أنه لا توجد ثقة من المواطنين فى طريقة انفاق الحكومة لأية زيادات ضريبية، لأنها حتى الأن لم تقم بإعادة هيكلة طريق انفاقها العام ومعالجة العيوب الكبيرة فيه» برأى الشلقامى.
بقاء قانون الاحتكار حتى بعد رحيل عز
«الأسعار نار» كانت من الشعارات التى فجرت الثورة، وأكدت تصريحات حكومية بعد الثورة عن ضلوع ممارسات احتكارية فى رفع الأسعار، حيث قال وزير التضامن والعدالة الاجتماعية، جودة عبدالخالق، إن فى مصر محتكرين للأرز تعرفهم الحكومة بالأسم، ومن أبرز العوامل الداعمة لمكافحة الاحتكار هو تعديل قانون مكافحة الممارسات الاحتكارية ذاته، او بالأحرى تمرير التعديلات التى عطلها رجل الاعمال أحمد عز إبان النظام السابق، وكانت تلك التعديلات التى تغلظ العقوبة وتشجع على الابلاغ على حالات الاحتكار، من أول الملفات التى أعلن عنها أول وزير صناعة بعد الثورة، سمير الصياد، ولكن مجلس الوزراء لم يعتمدها الا فى سبتمبر الماضى ولا تزال هذه التعديلات حتى الآن معلقة. «المجلس العسكرى لم يقترب من الملف ولم يدرسه ولم يعتمده حتى الآن، بل وقرر ترك الملف برمته بين يدى مجلس الشعب الجديد»، بحسب تصريحات مصدر مسئول قائم على الملف.
وتشمل تلك التعديلات إلغاء الحد الأقصى المحدد لغرامة ممارسى الاحتكار فى السوق، على أن تكون 10% من قيمة المبيعات للسلعة محل المخالفة، بالإضافة إلى إعفاء المبلغ الأول عن الجريمة من العقوبة لتشجيع كشفها. «يبدو أن الاعلان عن هذه التعديلات لم يكن إلا محاولة وقتية فقط لإرضاء الشعب»، بحسب أحمد غنيم، أستاذ الاقتصاد فى جامعة القاهرة، ومعد لدراسة عن قانون المنافسة والاحتكار، مشيرا إلى أن هذه التعديلات التى أقرتها الحكومة أغفلت كثيرا من المواد الأكثر أهمية.
ومن التعديلات التى أغفلها مشروع قانون الاحتكار الجديد ضرورة قيام الشركات بإبلاغ الجهاز عن عمليات الاستحواذ والاندماج، لما قد تمثله هذه العمليات من خلق كيانات كبيرة تتمكن من التحكم فى السوق والأسعار، بالإضافة إلى ضرورة تحقيق الاستقلالية التامة للجهاز، وإلغاء تبعيته لوزارة الصناعة والتجارة، ليتمكن بالقيام بدوره بصورة أكثر فعالية.
وهذه هى الأسباب «التى تستند إليها الحكومة حاليا لتبرير تأخير التصديق على التعديلات المعلن عنها، لنعد تصورا كاملا وشاملا للقانون»، بحسب المصدر المسئول. «ألم يكن من الأحرى القيام بذلك منذ البداية؟»، تتساءل الحداد.
إلغاء دعم الطاقة.. مراوغة جديدة للحكومة
الغاء دعم الطاقة على الصناعات كثيفة الاستهلاك، كان من أكثر الموضوعات المستهلكة على موائد وزراء اقتصاد ما بعد الثورة، والتى ألح عليها الميدان خاصة فى ظل بلوغ نسبة الانفاق على المحروقات من الانفاق العام 19%، وكان وزير المالية سمير رضوان يشير دائما إلى تخوفه من أن يتسبب الغاء هذا الدعم فى رفع الأسعار، ثم جاءت حكومة كمال الجنزورى لتعلن فى ظل الأحداث السياسية المضطربة بعد مذبحة مجلس الوزراء عن استجابتها لمطالب الثورة بالغاء دعم الطاقة على الصناعات كثيفة الاستهلاك بدءا من العام الجديد، أو بالأحرى كان تخفيض دعم الطاقة على تلك الصناعات بنسبة 33% هو ما أسمته الحكومة «بإلغاء دعم الطاقة».
كان «مُسكنا لتهدئة الأوضاع»، بحسب وصف إبراهيم زهران، خبير بترولى، خاصة أن «الموعد المحدد للإعلان عن الخبر فى بداية العام الحالى قرب موعد 25 يناير».
«اختارت الحكومة أن يظل الفقراء يدفعون فاتورة دعم رجال الأعمال الأغنياء»، بحسب قول ضحى عبدالحميد، أستاذة الاقتصاد التمويلى فى الجامعة الأمريكى، متسائلة «أليس من الأحرى دعم مجالات أخرى أهم مثل المعاشات والصحة والتعليم بدلا من دعم صناعات تحقق أرباح طائلة على أكتاف المستهلك؟».
وتجدر الإشارة إلى أن مصانع الحديد والأسمنت والأسمدة والسيراميك، وغيرها من الصناعات عالية الاستهلاك للطاقة، من المصانع التى تبيع منتجاتها بالسعر العالمى، وتحقق أرباحا طائلة. فيكفى القول أنه حتى فى عام الأزمة، وبرغم تراجع أرباح الشركات، إلا أن جميع هذه الشركات لا تزال تحقق أرباحا.
والسؤال الأهم «هل أصلا الحكومة بدأت فى تطبيق هذه الزيادة؟ وهل اتخذت الإجراءات اللازمة لحماية المستهلك وردع أى زيادة غير مستحقة للأسعار». بالطبع لا، تؤكد عبدالحميد، مشيرة إلى أنه فور الإعلان عن الزيادة المقررة، قامت بعض الشركات برفع الأسعار.
ففى أول استجابة إلى رفع الحكومة لأسعار الطاقة، قررت مجموعة حديد عز رفع أسعار حديدها لشهر يناير بنحو 100 جنيه للطن، ليصل سعر الطن إلى 4700 جنيه، وذلك بعد تثبيتها لعدة أشهر متتالية، و«كأن هذه الشركات تريد توصيل رسالة بعينها إلى السلطات حتى لا تفكر فى أى زيادة إضافية»، بحسب زهران.
ويستحوذ دعم الطاقة خاصة المنتجات البترولية على 95 مليار جنيه من بين 135 مليارا رصدتها الحكومة فى موازنة العام الحالى للدعم والتى تشهد عجزا يقدر ب134 مليار جنيه، لم تنجح هذه الخطوة سوى فى توفير 4 مليارات جنيه فقط، من إجمالى فاتورة دعم موجهة للمصانع تبلغ 20 مليار دولار.
وبصفة عامة، لا تكتفى الشلقامى بإلقاء اللوم على الحكومة، حيث ترى أن عدم نضج الرؤية الاقتصادية للكثير من الناشطين الشبان ساعد على أن تكون الإصلاحات الاقتصادية شكلانية «لانزال نفتقد للرؤية الاقتصادية المتكاملة».