ما زال الجدل القانونى دائرا حول إمكانية إعداد «الدستور أولا» قبل إجراء الانتخابات التشريعية، فى ظل خلاف بين شيوخ القضاة على تفسير المادة 60 من الإعلان الدستورى، التى يصفها البعض بأنها «واضحة وقاطعة» ويصفها آخرون بأنها لا تعبر عن إرادة الشعب فى إجراء الانتخابات أولا لعدم النص على هذا الترتيب صراحة وفق خطة زمنية واضحة. استطلعت «الشروق» آراء أربعة من شيوخ القانونيين فى مصر حول المسألة، بعد أيام من تأكيد المستشار د.محمد عطية، النائب الأول لرئيس مجلس الدولة، على أن «الدستور أولا» التفاف على الاستفتاء وإرادة 77% من المصريين.. سألناهم عن مدى إمكانية تعديل المادة 60 من الإعلان الدستورى، وعن مدى إلزامية أى وثائق سياسية تتفق عليها القوى السياسية مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة عند وضع الدستور الجديد. «أنزّه المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن مخالفة رأى أغلبية الشعب» بهذه العبارة استبعد المستشار طارق البشرى، رئيس لجنة تعديل الدستور، إمكانية تغيير خارطة الطريق التى وضعها الإعلان الدستورى بتقديم إعداد الدستور على الانتخابات التشريعية «لأن أى تغيير سيكون مخالفا لنتيجة الاستفتاء الشعبى، وستترتب على ذلك مسئولية تاريخية وسياسية». وأضاف البشرى: المطالبون بإعداد الدستور أولا «يخافون الديمقراطية» ورغم أن الإعلان الدستورى لم يحدد موعدا للانتخابات البرلمانية، أعتقد أن الوقت الحالى ملائم تماما لإجرائها مستلهمين روح ثورة 25 يناير والائتلاف السياسى العريض الذى قامت عليه، والحراك السياسى الذى صنعته فى المجتمع، وحماس المشاركة الذى شاهدناه خلال الاستفتاء، فهذا ظرف ديمقراطى مناسب جدا للمعركة الانتخابية بهدف حماية المكاسب السياسية للثورة. وفى المقابل يرى المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق، أن «الدستور أولا» أساس بناء النظام الديمقراطى الجديد «على الأقل لضمان شرعية القوانين التى تصدر حاليا من المجلس العسكرى بدون مرجعية دستورية، لأن الإعلان الدستورى كافٍ لتسيير مرحلة انتقالية محددة فقط، والحقيقة أن المجلس العسكرى طرح التعديلات الدستورية للاستفتاء وقد كانت آنذاك جزءا من الدستور القديم المعطل بأرقامها الأصلية». وأضاف أن المجلس العسكرى كان يجب عليه منذ البداية إصدار إعلان دستورى مؤقت من طرف واحد ينظم الحقوق والواجبات خلال الفترة الانتقالية، بموجب الشرعية الدستورية الثورية التى منحها له الشعب باعتباره صاحب سلطة السيادة بعد انهيار النظام السابق، لكنه اختار تعطيل الدستور ثم الاستفتاء على تعديل بعض مواده، ثم عاد واقتنع بما هو ضرورى ووضع مبادئ لدستور مؤقت يسقط بانتهاء الفترة الانتقالية، وهذا الأمر به مزاوجة غير قانونية. واستطرد شارحا: البعض يعتقد أن الإعلان الدستورى مكون من قسمين الأول أصدره المجلس العسكرى والثانى أصدره الشعب ممثلا فى المواد التى استفتى عليها، وهذا غير صحيح، فالمجلس العسكرى هو صاحب القرار الأول والأخير فى إصدار هذا الإعلان، لأنه يمتلك سلطة السيادة، ورأى الشعب لم يمنح الشرعية لأى مادة من الإعلان الدستورى، لأن شرعية المجلس العسكرى كانت قائمة بالفعل وتحيط بجميع قراراته بما فيها الإعلانات الدستورية. وأوضح الجمل أن تنفيذ دعوة «الدستور أولا» سهلة التنفيذ بشرط توافر الإرادة السياسية لدى المجلس العسكرى، لأن سلطته تسمح له بتعديل أى مادة من الإعلان الدستورى من طرف واحد، دون إعادة الاستفتاء عليها، من خلال إصدار بيان بتعديل المادة 60 التى لم تنص صراحة على خارطة طريق تدير البلاد، بل إن نصها الحالى يرتب الأولويات ضمنيا، ولا يمكن الادعاء بأن الشعب أدرك تماما هذا الترتيب وقت الاستفتاء. وأكد الجمل أن أى وثيقة تضعها القوى السياسية فى الوقت الراهن كنواة للدستور الجديد «ليست لها أى قوة أو حجية قانونية، بل لها قيمة سياسية فقط إذا التزمت جميع القوى بتنفيذها والاعتداد بها فى اجتماعات الجمعية التأسيسية لوضع الدستور». لكن المستشار عادل فرغلى، الرئيس السابق لمحاكم القضاء الإدارى، يرى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لا يمكنه أبدا إدخال تعديلات من طرف واحد على المواد التى تم استفتاء الشعب عليها، ولكن بإمكانه تعديل المواد التى أضافها بنفسه وهى الخاصة بسلطاته وسلطات مجلس الوزراء. وأكد فرغلى أن المطالبين ب«الدستور أولا» يتناسون حقيقة مهمة وهى أننا الآن نعيش فى ظل دستور فعلا، حتى وإن كان مؤقتا، فهو صالح لإدارة الفترة الانتقالية بامتياز وسبق أن حكمت مصر بدساتير مؤقتة عدة مرات ولم يتحدث آنذاك أحد عن ضرورة وضع دستور دائم، فالسؤال الذى يطرح نفسه الآن: ما هى المعايير التى سيتم اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية على أساسها إذا اخترنا وضع الدستور قبل إجراء الانتخابات؟ يرد فرغلى مستنكرا: لا توجد وسيلة لاختيار واضعى الدستور إلاّ الانتخاب الحر المباشر لأعضاء مجلسى الشعب والشورى فى ضوء المواد الدستورية السارية حاليا والتى تضمن انتخابات نزيهة وشفافة، ومصر فى ظل الوضع الحالى تضمن انتقالا سلميا للسلطة إلى المدنيين فى وقت قصير بدلا من طول الفترة التى يجمع فيها المجلس العسكرى بين سلطتى التشريع والتنفيذ. وأضاف أن الوثائق السياسية التى يضعها الفرقاء السياسيون حاليا «سياسية فقط وليس لها إلزام قانونى» ولا تعدو كونها ترسم خطوطا عريضة للجمعية التأسيسية التى ستضع الدستور، وسيكون للشعب حينئذ الرأى الأخير بالموافقة على ما ستنتهى إليه الجمعية التأسيسية من عدمها. وفى ذات السياق قال د.عاطف البنا، أستاذ القانون الدستورى بجامعة القاهرة، إن الحديث عن إعداد الدستور أولا «عبث وكلام مساطب» لأنه يخالف ما انتهى إليه رأى الشعب بجلاء، فقد كان متصورا أن يثور الجدل قبل الاستفتاء لكن لا مجال لإعادته بعدما تحول من مجرد مواد وتعديلات مقترحة إلى نصوص ملزمة لجميع هيئات وسلطات الدولة. وأشار البنا إلى أن الإعلان الدستورى ليست به أى مزاوجة وأن إلغاء الاستفتاء لا يجوز قانونا أو سياسيا، فإذا كان المجلس العسكرى له سلطة إصدار إعلان دستورى فهذا لا يلغى سلطة وإرادة الشعب الذى عاد إليه، لا يجوز العدول عن هذا الاستفتاء أو إلغاؤه، فالتعديلات التى أقرها الشعب تنظم بناء مؤسسات الدولة ومنها وضع الدستور الجديد، أما المواد التى أضافها المجلس العسكرى فلم يكن يمكن الاستفتاء عليها لأنها تحكم عمله هو كسلطة سيادة حاكمة وتنظم التزاماته أمام الشعب، وقلصت بالفعل صلاحياته كرئيس مؤقت للبلاد. وكشف البنا عن أن قبول الشعب إضافة المادة 189 مكررا فى تعديلات دستور 71 بتنظيم إجراءات وضع دستور جديد كان من الأسباب الأساسية التى دفعت المجلس العسكرى لإصدار إعلان دستورى، «فالمعتاد ألّا يتضمن الدستور مواد تتحدث عن إلغائه، بل تنظم تعديل مادة أو أكثر منه، لذلك تولدت حاجة ماسة لإعلان دستورى مؤقت ينص على وضع دستور جديد فى المادة 60». وحول إمكانية تعديل المادة 60 أكد البنا أن هذا الأمر يتطلب إجراء استفتاء شعبى جديد على التعديل، وهذا مستبعد سياسيا ومنطقيا «فمن غير المعقول استفتاء الشعب مرتين على شىء واحد خلال فترة قصيرة وبدون وقوع حدث جلل يستدعى الإعادة».