مازالت حدة الخلافات تتصاعد وتشتعل بين القوي السياسية الليبرالية والحزبية والثورية من ناحية وبين القوي الدينية السياسية من ناحية أخري حول إشكالية الدستور أولا أم الانتخابات التشريعية والبرلمانية؟! وهي المعركة التي تشتد كلما اقترب موعد الدعوة للانتخابات والمحدد لها سبتمبر القادم. الصراع والخلاف انتقل إلي المستويات العليا في الدولة ووصل إلي مرحلة الصدام بين القانونيين والدستوريين ورؤساء الأحزاب والمرشحين المحتملين للرئاسة وأخيرا بين مجلس الدولة والحكومة وذلك بعد أن خرج المستشار الدكتور محمد عطية النائب الأول لرئيس مجلس الدولة للتأكيد علي أن دعوة بعض القوي السياسية لإعداد الدستور أولا قبل إجراء الانتخابات التشريعية هي محاولة من هذه القوي للالتفاف علي نتيجة الاستفتاء وتهميش إرادة الشعب بالموافقة علي هذه التعديلات وأن المادة 60 من الإعلان الدستوري واضحة وتقضي بضرورة إجراء الانتخابات قبل إعداد الدستور وأنه إذا طلبت الحكومة رأي الجمعية العمومية لقسمي الفتوي والتشريع بمجلس الدولة والتي يرأسها هو شخصيا فسوف يتنحي عن إبداء الرأي فيها لأنه كان يرأس اللجنة القضائية العليا المشرفة علي استفتاء التعديلات الدستورية وأن نتيجة الاستفتاء علي التعديلات غير قابلة للطعن بأي حال لأنها تعتبر من أعمال السيادة التي تنأي عن رقابة القضاء الإداري أو أي جهة قضائية أخري. وفي المقابل دخلت الحكومة حلبة الصراع عن طريق رئيس الوزراء د.عصام شرف الذي أعلن رأيه بصراحة في أنه مع الدستور أولا وأنه المطلب الأساسي لكل القوي السياسية الليبرالية الأخري وأيضا قوي الثورة وفي السياق نفسه أكد د. يحيي الجمل نائب رئيس الوزراء وهو فقيه دستوري يعتد به أن الدستور أولا لا يخالف نتيجة الاستفتاء علي الإطلاق وأن هناك تخوفات مشروعة من سيطرة بعض القوي الدينية علي البرلمان وتحويل الدولة عن طريق وضع الدستور إلي دولة دينية وأنه لا يوجد أسوأ من الدولة الدينية وأنها أسوأ حتي من الدولة البوليسية أو الديكتاتورية وأن المجلس العسكري هو من يملك الشرعية الآن وإذا رأي ضرورة وضع الدستور قبل الانتخابات سيكون قرارا دستوريا صحيحا وأن ذلك لا يخالف إرادة الشعب لأن الذي يحكمنا الآن هو الإعلان الدستوري وليس التعديلات الدستورية. والحقيقة أن المبررات التي ساقها د. يحيي الجمل هي مبررات واقعية ومشروعة وتؤكد تخوفات عدة من سيطرة الدولة الدينية في المستقبل إذا ما تم إجراء الانتخابات التشريعية أولا.. وأن الجماعة أو الجبهة أو التيار الوحيد الذي يسير في اتجاه الانتخابات أولا هو التيار الديني فقط والغريب أنه يدافع عن رأيه ويتمسك به باستماتة غريبة ومريبة في نفس الوقت ويعتبرها قضية حياة أو موت وللأسف الدعوة التي يرددها بأن الدستور أولا مخالف للديمقراطية وأن ذلك التفاف علي إرادة الشعب هو حق يراد به باطل لأن الشعب استفتي علي شيء وخرج الإعلان الدستوري بمواد أخري لم يستفت الشعب عليها. المادة 60 التي خرجت من عباءة الإعلان الدستوري لتضع الانتخابات قبل الدستور لم تكن ضمن المواد الدستورية التسع التي تم الاستفتاء عليها بنعم أم لا والتي يروج بها باطلا بأنها تمثل إرادة الشعب وأن أية محاولة لتجاوزها هي محاولة للالتفاف علي إرادة الشعب. هذا كلام يروج له التيار الديني لمحاولة الانقضاض علي الثورة وتحويل مسارها لصالحهم فقط وليس لصالح الشعب الذي قام بهذه الثورة. نحن لنا الحق في أن نخشي سيطرة التيار الديني علي مستقبل هذا البلد والدليل علي ذلك ما ذكره أحد الشيوخ ونشر في جريدة المصري اليوم الأسبوع الماضي أن الذين يطالبون بالدولة المدنية والعلمانية هم كفرة وملحدون . وأيضا ما ذكره الكاتب والمفكر الإسلامي د. محمد سليم العوا.. وهو مرشح للرئاسة عن المطالبين بوضع الدستور أولا ووصفهم ب «شياطين الإنس».. تخيلوا هذا هو مستقبلنا لو سيطر علي الحكم التيار الديني سواء إخوان أو سلفيون أو جهاديون.. تصوروا.. مرشح للرئاسة ومفكر مستنير مثل د. العوا يصف المختلفين معه بهذا الوصف. لهذا ولأجل ذلك نطالب دائما بأن يكون الدستور أولا هو المنهج الذي يجب أن يضع شكل الدولة المصرية وأن ينسج هويتها ويحدد ملامح النظام السياسي ويضمن مدنيتها. أخيرا في ظل هذا الجدل المحتدم بين هذه الأطراف فإنني أقدم اقتراحا للمجلس الأعلي للقوات المسلحة وهو صاحب الشرعية في اتخاذ أي قرار يراه صائبا وهو أن يطرح إشكالية الدستور أولا أم الانتخابات علي الاستفتاء الشعبي أسوة بما تم في التعديلات الدستورية وهو هنا يستند إلي الإرادة الشعبية الواضحة والمحدودة التي لا لبس فيها علي الإطلاق وبناء علي نتيجة الاستفتاء بوضع الدستور أولا أو الانتخابات ستكون قد تحققت إرادة الملايين وليس إرادة النخبة أو إرادة تيار علي حساب تيار أو إرادة فئة وقوي علي حساب فئة وقوي أخري. الاستفتاء الشعبي علي هذه الإشكالية هو أفضل حل للخروج من هذا المأزق وهو أبلغ حسم لهذه القضية.. أبلغ من رأي المحكمة الدستورية العليا وأصدق من رأي لجنة الفتوي والتشريع وفوق رأي الحكومة والتزام المجلس العسكري نفسه بنتائج الاستفتاء السابق. في رأيي هذا هو الحل الأمثل ويجب إذا حاز الموافقة عليه أن يتم العمل فيه بسرعة وأن تتم الدعوة للاستفتاء قبل شهر رمضان القادم وقبل الدعوة لإجراء انتخابات مجلس الشعب وبناء علي نتيجته سيتحدد الطريق الذي نسير عليه جميعا وسيكون قرار الأغلبية هو القرار الملزم لكل الأطراف وأن هذا الطريق هو الوحيد الذي يحقق الديمقراطية ويعلي كلمة الشعب سواء كان الدستور أولا أم الانتخابات.