«باختصار نحن أمام عالم سفلى جديد وضخم، تشكل بصورة أكثر عمقا وشمولا منذ بداية تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادى فى مصر عام 1974، وأخذ طابعه المؤسسى منذ أن تولى الرئيس حسنى مبارك مقاليد الحكم».. تلك هى الكلمات التى اختارها عبدالخالق فاروق، الخبير فى الشئون الاقتصادية والاستراتيجية، ليقدم بها كتابه عن «اقتصادات الفساد فى مصر»، الصادر حديثا عن دار الشروق الدولية، الذى عرض فيه تفاصيل خريطة ممارسات الفساد فى مصر والمليارات المذهلة التى تنفق على العمولات والصفقات المشبوهة والإكراميات. من أبرز حالات الفساد التى يرصدها عبدالخالق فاروق، الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى العلوم الاقتصادية والقانونية، فى كتابه، حالات فساد أعضاء مجلس الشعب، الذين من المفترض أن يعبروا عن إرادة الأمة، إلا أن ثمة تشريعات فتحت الباب لرشوتهم حتى صار بعضهم يعبر عن إرادة السلطة التنفيذية. فبالرغم من أن الدستور ينطوى على نص صريح لغلق الباب أمام فساد نواب البرلمان، وهى المادة 95 التى تنص على أنه «لا يجوز لعضو مجلس الشعب فى أثناء مدة عضويته أن يشترى أو يستأجر شيئا من أموال الدولة أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو أن يقايضها عليه أو أن يبرم مع الدولة عقدا بوصفه ملتزما أو موردا أو مقاولا»، إلا أن نصوصا أخرى أصدرتها السلطة التنفيذية للالتفاف على هذا النص الدستورى، وعلى نصوص مماثلة فى قانون مجلس الشعب، حيث تم صدور القرار الجمهورى بقانون 109 لسنة 76 ونصت المادة 28 من القرار بأنه لا يجوز أن يعين عضو مجلس الشعب فى وظائف الحكومة أو القطاع العام أو الشركات الأجنبية أثناء مدة عضويته إلا إذا كان التعيين نتيجة ترقية أو نقل من جهة إلى أخرى، «وفتح تعبير «إلا إذا..» عمل الشيطان»، كما يقول المؤلف، حيث استغلت السلطة هذه الصيغة من أجل إفساد عشرات أعضاء مجلس الشعب بتعيينهم أعضاء مجالس إدارة منتدبين فى شركات قطاع الأعمال العام، الذى يجرى تفتيته أو بيعه ومشاركتهم فى مأدبة البيع والتصفية، بحسب المؤلف. ومن أدوات الإفساد أيضا المادة 34 مكرر، التى نصت على أنه يعين وكيل الوزارة لشئون مجلس الشعب من بين أعضاء هذا المجلس بقرار من رئيس الجمهورية، ويتضمن قرار التعيين إلحاقه بمجلس الوزراء أو بأحد القطاعات الوزارية أو بوزارة معينة أو أكثر، أى أن رئيس الجمهورية قد امتلك منذ تلك اللحظة ميزة منح العطايا لهذا العضو أو ذاك أو منعها عن عضو آخر، كما أن الفقرة الثالثة من نفس المادة حصرت عملية حظر مزاولة مهنة حرة أو شراء أو استئجار شىء من أموال الدولة فى وكيل الوزارة لشئون مجلس الشعب وتركها طليقة من كل قيد لبقية الأعضاء. وتحت هذا التحول، يقول المؤلف، انتقل عشرات من أعضاء مجلس الشعب من نجارين وعمل وفلاحين وموظفين ومهنيين إلى ديناصورات وذئاب فى عالم المال والأعمال، كما قضت السياسات الحكومية بإغداق المزايا والامتيازات على الكثيرين منهم، وليس أقلها الائتمان المصرفى وقروض البنوك، إلى كسر عينهم بالمعنى الحرفى لا المجازى للكلمة. فساد عصر مشروعات البنية الأساسية وربما من أشهر ملامح عهد مبارك مانشيتات الصحف القومية التى كانت تتحدث كل صباح عن الإنفاق الحكومى الضخم على البنية الأساسية، ولكنها لم تكن ترصد ما يتسرب من هذه الأموال إلى ممارسات الفساد، فبينما تكلفت الدولة نحو 400 مليار جنيه منذ عام 1982 إلى 2004 من أجل إقامة البنية التحتية، شملت مشروعات كالمستشفيات والمدارس والطرق والكبارى ومحطات المياه، وبحلول عام 2010 تجاوزت 500 مليار جنيه، يقول المؤلف إنه تشكلت على أثر تلك التدفقات المالية شبكة مصالح هائلة من الموردين والمقاولين والمليونيرات الجدد. حيث انتشر فى قطاع المقاولات نظام لإسناد المناقصات وفتح المظاريف يقوم على حصول القائمين عليه على نسب محددة من قيمة كل عطاء أو عملية فى صورة عمولات تتراوح بين 5% و10%، تذهب إلى دائرة ضيقة من متخذى القرار بدءا من بعض أعضاء لجان البت وانتهاء بالوزير المسئول، وتكونت على إثرها شبكات سرية لإدارة هذه العمليات اعتمدت على المعاونين أحيانا من الأقرباء وأزواج الشقيقات، ومن خلال فتح مكاتب استشارية وهندسية أو غيرها تقوم بعملية إدارة القنوات السرية بين الراشين والمرتشين فى هذا القطاع الخطير. ويقدر فاروق حجم العمولات التى صرفت فى هذا المجال فى الفترة بين 1982 2004 بأنها تتراوح بين 20 و40 مليار جنيه، هذا بخلاف التهريب المباشر للأراضى المخصصة لأغراض المنفعة الاجتماعية. تدفق الفساد مع التجارة أما عن التجارة، فإن النشاط الاستيرادى الواسع الذى شهدته مصر منذ عام 1974، ساهم فى تكوين شبكات فساد كبرى، كشبكات السماسرة والوسطاء الذين يقومون بتسهيل دخول البضائع أو خروجها من المنافذ الجمركية والموانئ، إلى جانب ممارسات الفساد الدوائر المصرفية التى تقوم بتمويل النشاط الاستيرادى أو التصديرى للقطاع الخاص ومنح الاعتمادات المستندية أو تقديم الائتمان المطلوب. ويشير المؤلف إلى أن حجم واردات مصر من البضائع التى تعاقد عليها القطاع الخاص، خلال 1982 2004 قدرت بأكثر من 80 مليار دولار، «فإذا قدرنا نسبة العمولة للوسطاء والسماسرة ورجال المصارف والبنوك والمخلصين الجمركين وغيرهم تتراوح بين 1% و2.5% وهى النسب المتوسطة المعروفة لمثل تلك الصفقات يكون لدينا ما بين 800 مليون دولار إلى 2 مليار دولار ذهبت إلى دهاليز الاقتصاد الخفى»، بحسب فاروق. خذ قرضك وأعطنى نسبتى ومع انتعاش حركة التجارة والاستثمار منذ منتصف السبعينيات زادت القروض الممنوحة للقطاع الخاص والعائلى من 32 مليون جنيه عام 1970 إلى 200 مليار جنيه بنهاية 2003، بما يمثل 75% من إجمالى الائتمان الممنوح من البنوك العاملة، وهو التمويل الذى تتمتع نسبة صغيرة من رجال الأعمال بشريحة كبيرة منه، حيث أظهر تقرير للجهاز المركزى للمحاسبات عام 2006، أن 94 عميلا للبنوك الحكومية الأربعة، قد حصلوا وحدهم على أكثر من نصف حجم القروض والائتمان الممنوح من هذه البنوك، «بينما كانت الشركة القابضة للقطن والغزل والنسيج تطالب بتوفير 150 مليون دولار من أجل تطوير شركتها لم تمنح فعليا سوى 20 مليون دولار على مدى عدة سنوات»، كما يشير فاروق. وقد أدت هذه الحركة المالية والائتمانية الواسعة وقلة الضمانات المطلوبة، وفقا للأعراف المصرفية المحترمة إلى إيجاد قنوات سرية وقواعد جديدة تقوم على حصول بعض المسئولين فى هذه البنوك والمصارف وإدارات الائتمان على نسب معينة من القروض الكبرى بلغت فى بعض الأحيان من 10 إلى 15% من قيمة القرض. وفى مجال الطاقة، يقدر حجم ما جرى إهداره من الغاز الطبيعى وحده بسبب سياسات التسعير المشكوك فى مقاصدها سواء مع الكيان الصهيونى أو فرنسا أو إسبانيا وإيطاليا خلال الفترة من 2002 إلى 2008 بما يتراوح بين 4 و5 مليارات دولا سنويا، حسب المؤلف. الفساد الذى ورطنا فيه النظام قد تشعر بالحنق على ممارسات الفساد السابقة لأنها تتركز فى الطبقات العليا والنافذين فى المجتمع، ولكن المؤلف سيصدمك بتفاصيل الفساد التى يمارسها المواطن العادى فى حياته اليومية. التى نشأت بسبب عدم العدالة فى سياسات الأجور والأسعار، مما دفع الكثير من الفئات إلى الاعتماد على «أجور الظل» فى خدمات مثل التعليم والصحة والشرطة والأمن والمحاكم ومكاتب التوثيق والشهر العقارى والمرور، معتبرا أن الحالة المصرية «تكاد تكون نموذجية فى دراسة كيفية تحول الفساد فى مجتمع ما من حالات انحرافات فردية معزولة إلى ممارسة مجتمعية شاملة بالمعنى الحقيقى لا المجازى للكلمة». ففى المستشفيات العامة والحكومية التى يتردد عليها نحو 47 مليون مريض، وفقا لتقرير وزارة الصحة عام 2006، فإن تقديم الخدمة لهؤلاء لا يتم إلا من خلال الإكراميات والوساطة وبحسب الحالة الصحية وخطورة المرض. وقدر حجم الأعباء التى تتحملها الأسر فى الدروس الخصوصية وشراء الكتب المساعدة عام 2005 بأنها تزيد على 18 مليار جنيه. وإذا كان عدد محاضر أقسام الشرطة وتبليغات النيابة تزيد على 10 ملايين بلاغ سنويا، وقدرنا متوسط مما ينفقه أصحاب هذه البلاغات والنزاعات ما بين 50 إلى 100 جنيه من أجل تسهيل الأمور أو تحريك المنازعة أو تجميدها، بحسب الأحوال، تكون لدينا إكراميات سنوية بما يتراوح بين 500 مليون ومليار جنيه. ووصول هذه التبليغات إلى دوائر المحاكم يؤدى إلى أنواع جديدة من الإنفاق، تبدأ من قلم المحضرين وتمتد فى شبكة عنكبوتية إلى سكرتيرى الجلسات وغيرهم، فإذا كان لدينا نحو 30 مليون قضية معروضة على القضاء المصرى الآن بمتوسط إنفاق خفى على تلك القضايا يتراوح بين 50 و100 جنيه سنويا، فإن ما يتراوح بين 1500 مليون و3 مليارات جنيه تنفق سنويا فى دهاليز المحاكم. ويقدر فاروق أن الأحجام الكلية لأموال وتدفقات الاقتصاد الخفى والأموال السوداء تراوح بين 57 و70 مليار جنيه سنويا خلال العقد الماضى وحده. المفاجأة الأكبر التى قد لا يعرفها الملايين من المواطنين، هى أن الحكومة التى كانت تتحجج دائما بقلة الموارد، والإنفاق الضخم على دعم السلع لسد احتياجات الزيادة السكانية، هى أن الشعب فى مصر هو الذى يدعم الحكومة. حيث يشير فاروق إلى معدلات الفائدة التى تقترض بها الحكومة منذ عقود طويلة أموال التأمينات والمعاشات وتتولى استثماراها وإقراضها بأسعار فائدة تزيد على 3 إلى 4 أضعاف فى سوق الائتمان والاستثمار، ويقدر فارق السعر هذا منذ عام 1974 حتى عام 2004 بنحو 90 مليار جنيه، بمتوسط سنوى 3 مليارات جنيه، تحصل عليها الحكومة، بينما بلغت مخصصات الدعم وخفض تكاليف المعيشة خلال تلك الفترة نحو 55 مليار جنيه، وهو ما يعنى أن «الفقراء وأصحاب المعاشات دعموا الحكومة بأكثر من 35 مليار جنيه».