بهدوء يخرج من صندوق بندورا الأسطورى عالما جديدا من القصص والحكايا، يجمعها بين دفتى كتاب «جنوبا شرقا.. رحلات ورؤى» الصادر منذ أيام عن دار الشروق. هى تلك الرحلات الاستطلاعية التى قام بها محمد المخزنجى على مدى ثمانى سنوات أثناء عمله بمجلة العربى الكويتية. ومثل كل مرة يحتار القارئ فى تصنيف العمل تحت نوع محدد، مثلما حدث عند صدور كتابه القصصى «حيوانات أيامنا»، أو كتبه التى عرفت بالأدب البيئى للأطفال، فإذا ما قرأها وجدها قطعا أدبية لا تخص الأطفال وحدهم، لكنها حكايات أبطالها من الحيوانات والطيور والبحيرات والأشجار. أما هنا فهى مجموعة من الاستطلاعات الصحفية التى «اعتبرت وقتها طفرة فى عالم الصحافة العربية» والتى تعيد لكتابة أدب الرحلة الألق الذى فقدته. نعم، يطرق الدكتور محمد المخزنجى النوع الصحفى دون أن ينتقص ذلك من اعتلائه مملكة الأدب، يترك الطب النفسى الذى تخصص فيه والطب البديل الذى افتتن به والقصة الأدبية التى برع فيها والعالم البيئى الذى يغوص فيه ليعرف حقيقة البشر، ليكتب مجموعة من الرحلات الاستطلاعية الصحفية. أو لعله يأخذهم جميعا فى رحلته الجديدة«جنوبا وشرقا» رافضا أن يتم اختزال الأدب فى أشكال القصة والرواية والشعر. كتب الرحالة العرب قديما أدب الرحلات مثل ابن بطوطة، كما ذهب أدباء الغرب مثل مونتانيى وفيكتور هوجو وهيمنجواى فى رحلات استكشافية تتخذ من الرحلة سر وجودها وتعتمد ليس على الخيال، بل على العلاقة بالعالم الخارجى بالطبيعة والجغرافيا والتاريخ ليسجل كل منهم اكتشافاته ويحكى عن كشوفه، يندهش ويشرك القارئ فى دهشته. استحضر محمد المخزنجى فى «جنوبا وشرقا» هذا النوع الأدبى التراثى «أدب الرحلة» فى ثوب صحفى عصرى أخاذ، إيمانا منه بأنه نوع من الكتابة لم يأخذ حقه من النقد، وهو الاستطلاع الصحفى الذى يعرفه صاحب «السفر» فى إحدى مقالاته بأنه «موجة من الكتابات الصحفية الكبرى تمزج ما بين فن القصة والرواية فى التشويق والحبكة، وفن الصحافة فى الاستقصاء والبحث والمقابلات الحية، وتُوِّجَت هذه الموجة بما يسمى فى لغة الصحافة «التحقيق المُعمّق». يدرك المخزنجى أهمية هذه الكتابة التى تشتق من أدب الرحلة ولكنها نظرا لظروف نشرها فى مساحة محددة من جريدة أو مجلة تصبح أكثر دقة وتكثيفا، أى أنها تفرض على الكاتب تكثيف الوصف والمشاهدات والتحليلات لتعطى للقارئ صورة تقترب من الأمانة والدقة فى سرد الواقع. لدرجة أنه حين سألناه النصح فى منحة الدراسة الصحفية التى تنظمها مؤسسة هيكل للصحافة للاستفادة من مدارس الصحافة البريطانية العريقة، كانت نصيحته هى البحث والتنقيب عن آخر ما وصلت إليه أشكال الصحافة الاستطلاعية ومحاولة تطويرها فى عالمنا العربى. الولع بالجنوب والشرق هذا البحث فى أشكال الكتابة ليس مجرد احتفاء بالتنوع فى الكتابة المعرفية الأدبية إذا جاز الوصف كما سبق وغامر دائما الطبيب الكاتب عندما كتب الريبورتاج القصصى عن كارثة تشرنوبيل، أو عندما كتب قصص الحيوانات التى تجمع بين الحكاية والتعريف الموسوعى وأدب الرحلة وبين الحكمة العربية القديمة التى تقتفى سؤال الوجود من خلال علاقات الحيوان والنبات وعناصر الطبيعة كاملة. لكنها كتابة تضرب بجذورها فى جوهر الكتابة نفسه باعتبارها رحلة، يقود فيها الكاتب الراوى قارئه ويجعله يشاركه الرؤى التى تتبدى له. كما تضرب هذه الكتابة جذورها كذلك فى تكوين الكاتب نفسه وحبه للمغامرة واكتشاف العالم، هذه الغواية كما يصفها الكاتب التى سيطرت على الطفل، ابن مدينة المنصورة حين كان يذهب فى رحلات استكشافية مع أقرانه على أطراف المدينة، وفى فترة المراهقة صار يعتلى أسطح القطارات ليكتشف ويرى العالم من هذه الزاوية المرتفعة. وظل الولع بالترحال والاكتشاف كامنا عبر رحلته الدراسية للاتحاد السوفييتى السابق من أجل التخصص الطبى، أو عبر رحلة الموانئ المتوسطية حتى تفجرت هذه الغواية، كما يروى المخزنجى فى مقدمة كتابه، عندما التحق بأسرة تحرير مجلة العربى، وأسفرت رحلاته الاستطلاعية الصحفية ما بين عامى 1993 و2001 عن نصوص هذا الكتاب. لم تكن «تكليفات» صحفية بقدر ما كانت اختيارات للكاتب الأديب أسندها إليه مسئولو المجلة واثقين فى روح المخاطرة والمغامرة لديه، فحقق بحدسه أكثر من سبق صحفى مثل استطلاع ناميبيا «جوهرة أفريقيا المنسية» الذى شهد رجوع ميناء «والفزباى» إليها من جديد بعد خضوعه لنفوذ دولة جنوب افريقيا لسنوات، أو استطلاع جنوب أفريقيا الذى يوثق للأيام الأخيرة قبل إعلان نهاية نظام الفصل العنصرى (الأبرتهايد)، أو البوسنة بمجرد صدور قرار وقف إطلاق النار، وغيرها. وكان هذا الحدس منطلقا من ميل جارف لدى الكاتب نحو بلدان الجنوب والشرق، إذ يفسر هذا الضعف العاطفى مجيبا عن سؤال يطرحه فى المقدمة حول أى البلدان التى كان سيختارها لو قُدر له العيش خارج مصر، قائلا: «وإجابتى من داخلى، من العمق العاطفى والجمالى والفكرى فى ذاتى، هى: أختار البلدان التى زرتها فى إفريقيا وآسيا وجنوب وشرق أوروبا، وأختار لو أزور أمريكا الجنوبية التى لم يكن لى حظ زيارتها، باختصار لا أختار أمريكا ولا الغرب كله، بل أختار الجنوب والشرق، وأهيم عشقا ببلدات صغيرة فى الجنوب والشرق أحب لو أعيش فيها لو قدر لى أن أختار إضافة للمنصورة المصرية وحمص السورية». إذ يرى المخزنجى أننا «متخمين» بالغرب، ويعترف بأنه يحتفظ بمرارة خاصة تجاه الغرب «الذى لم يغادر الفترة الاستعمارية إلا إلى فترة استعمار جديد، نوع من الأنانية والاستعلاء اللذين لا أستطيع إبعادهما عن خاطرى وأنا أهيم ببساطة، ورقة حال، إلى مروحة ألوان الجنوب والشرق الطبيعية الخلابة». الأسلوب المخزنجى يعرف أدب الرحلة باعتباره متعدد الأنواع، قد يكون سيرة ذاتية مثلما فعل أندريه جيد، أو غنائية للطبيعة مثلما كتب جان جاك روسو، أو مقال فكرى مثلما اتجه ليفى شتراوس، كما تتعدد فيه نماذج الخطاب أيضا، ففى نفس النص الذى ينتمى لأدب الرحلة قد يشتمل على الجغرافيا التى هى «أم التاريخ» كما يقول المخزنجى والسياسة واللغة والمعلومات الاثنية إلخ ولذا يعتبرها منظرو الأدب نوع من «كولاج الأنواع» أى أنواع ومعارف عدة يلجأ إليها الكاتب ويضيف إليها الصحفى الحوارات الصحفية الحية وشهادات الناس وغيرها. فى كتابة محمد المخزنجى للرحلة، يغمرنا الكاتب بالمعلومات والوصف الدقيق عن الأماكن والبشر، مثل معلومات عن القبائل الافريقية، ويعود بنا إلى الأصل التاريخى للأماكن التى يزورها، ويصف لنا أنواع الطيور أو أنواع الأشجار وهى معارف دقيقة ونادرة يصعب أن يلم بها كاتب واحد، ولكنها رغم ذلك لا تحول النص إلى معلومات موسوعية فى التاريخ والجغرافيا والطبيعة، بل إن المخزنجى «يفتح عينيه على اتساعهما» و«يفتح عيون بصيرته بقدر المتاح»، وينفخ فى نصوصه روح الأديب التى تسكنه، فيجعل كتابة الرحلة ذات طابع يخصه وحده. يأخذك فى مقدمة كل رحلة بنص أدبى فريد يفتتح به الفصل كما لو كانت اقتباس كتبه رحالة ماهر عن هذا البلد، لكنه هنا يصبح اقتباسا من مشاهدة الكاتب نفسه يصعب أن تجده فى الاستطلاعات الصحفية التى يكتبها أكثر الصحفيين حنكة. ففى الفصل المخصص عن محبوبته «زيمبابوى. حيث لا يغيب قوس قزح» ومن هذه الأرض التى يقسم الكاتب «أن لها رائحة عطرة»، يفتتحه المخزنجى قائلا: «هل أدلكم على رعد يقصف دون بروق، ومطر يتجه من الأرض إلى السماء، وأقواس قزح تلمسها اليد ولا تغيب؟.. إنها شلالات فيكتوريا، أعجوبة نهر الزامبيرى الفاتنة». وحين يقص علينا رحلته للمغرب، يغوص فى طبيعة البشر الذين يلتقيهم ويربط هذه الطبيعة بالجغرافيا، بعناق البر والبحر، والأريحية والسماحة التى تنعكس على أهلها، ولا يفوت صاحب «الموت يضحك» أن يعود إلى الأدبيات التى رصدت ورسمت الشخصية المغربية وعلى رأسها أعمال الكاتب محمد شكرى المسكون بحب مدينة طنجة. ويصل المخزنجى برصده وتحليله العميق إلى طرح الأسئلة حول وقوف المغرب بتوازنه وتسامحه فى منأى عن التطرف الذى يعربد فى الوطن العربى خارج الحدود المغربية، وهذا رغم الفقر والتباين الاجتماعى. ويطرح أيضا إجابة قدمها المفكر محمد عابد الجابرى مفادها أن المشروع الثقافى المغربى دعا منذ الثلاثينيات إلى تأصيل الحداثة وتحديث الأصالة. ولا ينس المخزنجى فى صقله وإضفاء الروح الشعرية على نص الرحلة، أن أحد ملامح أدب الرحلة هو الهدف التعليمى أو بمعنى أدق نقل المعرفة الدقيقة الخاصة بالرحلة للقارئ، وفى معظم الأحوال يكون القارئ موجودا ضمنيا فى السرد الأدبى، فيتوجه الكاتب إلى جمهور ينتمى إلى نفس ثقافته ويكون هناك نوع من التواطؤ الحميد بين الكاتب والقارئ. وفى «جنوبا وشرقا» يحكى المخزنجى مشاهداته وانبهاره بالنموذج الهندى على سبيل المثال متوجها إلى القارئ العربى. فيروى لنا نحن العرب الذين كنا شركاء مع الهند فى كتلة عدم الانحياز، وكانت تعد ضمن دول العالم الثالث، كيف تقوم بتصنيع أقمارها الصناعية، وأنها بلد العجائب والمتناقضات، ويذكرنا المخزنجى بأنها إحدى الدول العشر الأكثر تقدما علميا على مستوى العالم، وبأنها مكتفية غذائيا، بل توشك على تصدير القمح أيضا، وكيف صنعت سيارات فيات هندية مائة بالمائة.