كانت غاية طموح الرجل أن ينهض بمهنته والمحيط الذى يعمل فيه. وتصور أنه كأستاذ للغة العربية يستطيع أن يبشر بدعوته بين تلاميذه. صحيح أنه كان يتعامل مع دائرة محدودة وضيقة لا تتجاوز إحدى المدارس الثانوية الصناعية فى كفر الدوار بمحافظة البحيرة، إلا أنه لم ييأس، وقرر أن يستحث طلاب الصف الأول بالمدرسة، فوضع سؤالا فى امتحان مادته هذا نصه: «يجب على جميع الموجودين فى ساحة التعليم الفنى أن يقوموا بثورة تصحيح الأوضاع القائمة فى هذه الساحة مترامية الأطراف، حيث ينال الطالب حقه فى تعليم جاد يحقق طموحه، ويحصل المعلم على أجر مناسب، يحيا به حياة كريمة». لم يكن واضحا فى الخبر الذى نشرته صحيفة «الشروق» أمس 15/5 ما إذا كان السؤال فى منهج التعبير أم النحو، لكن الشاهد أن القيادات التعليمية فوجئت به، واعتبرت أن الكلام عن ثورة تصحيح فى مجال التعليم الفنى أمر مثير للقلق. فقررت إيقاف المدرس عن التدريس وتحويله إلى عمل إدارى بديوان الإدارة التعليمية، ليس ذلك فقط، وإنما إحالته إلى التحقيق الذى أحيط بتكتم شديد. هذا الخبر إذا صح فإنه يذكرنا بقصة طالبة الإعدادية فى الدقهلية «آلاء» التى انتقدت الأوضاع الاجتماعية السائدة وكيفية تعامل الحكومة معها، فألغى امتحانها وأحيلت إلى التحقيق، وقامت الدنيا ولم تقعد، ولم ينقذها من تدمير مستقبلها الدراسى إلا تدخل الرئيس مبارك، بعدما انكشف أمر الفضيحة ونشرت تفاصيلها فى مختلف وسائل الإعلام. العقلية البيروقراطية فى الحالتين واحدة. ذلك أن لدينا جيلا من القيادات الإدارية، أصبح شديد الحساسية إزاء أى نقد للسلطة أو اختلاف مع سياسات الحكومة. ليس ذلك فحسب، وإنما تحول قطاع عريض من تلك القيادات فى حقيقة الأمر إلى مرشدين أمنيين، يؤمنون بأن استرضاء الحكومة والحدب عليها إلى حد المزايدة على الأجهزة الأمنية، هو السبيل الأمثل للتمكين من مواقع القيادة والترقى فى مدارجها. وذلك ليس مقصورا على قطاع التعليم، لأنه حاصل فى مختلف مجالات العمل العام، التى صار الولاء فيها وليس الكفاءة هو المعيار الذى على أساسه يجرى تقييم الأفراد وترفيعهم. ولا ننسى هنا أن انقلابا حدث خلال السنوات الأخيرة فى سلك الوظائف القيادية المدنية وغير المدنية بمقتضاه أصبح بقاء الموظف القيادى فى منصبه أو ترقيته إلى مرتبة أعلى يتم باختيار وقرار المسئول الأول فى قطاعه، وليس بناء على نظام وقاعدة مستقرة يسريان على الجميع. وهذا المسئول الأول يصدر قراره فى ضوء تقارير الأجهزة الأمنية. وهو ما يعنى أن مصير جميع الموظفين الذين يشغلون المواقع القيادية فى كل مرافق الدولة أصبح معلقا على رضاء تلك الأجهزة. حين سادت هذه العقلية بدا مفهوما لماذا يستهول المسئولون فى مديرية التعليم أن تنتقد تلميذة لا حول لها ولا طول سياسة الحكومة، ولماذا يصدم أقرانهم فى البحيرة حين يجدون مدرسا نبه تلاميذه إلى حاجة التعليم الفنى إلى ثورة تصحيح ترفع مستوى الطالب وتنهض بالمدرس. لا أعرف ماذا قال المدرس فى التحقيق حين تم استجوابه، وكيف كانت أسئلة من حقق معه، لكنى أتمنى ألا يحال الملف فى النهاية إلى مباحث أمن الدولة، ذلك أن لديها من الهواجس ما يدفعها إلى الشك فى أن المدرس يقصد إثارة الفتنة فى المجتمع، بحيث يدعو اليوم إلى ثورة تصحيح فى التعليم الفنى، ليدعو بعد ذلك إلى ثورة تصحيح فى مصر كلها. كما أن لديها من الوسائل ما يمكنها من دفع الرجل إلى الاعتراف بأنه كان حقا بصدد تشكيل خلية تابعة لحزب الله للقيام بثورة تصحيح فى البلد. أما إعلامنا الأمنى فهو جاهز لشن حملة تنديد «بالمؤامرة الإجرامية» التى استهدفت قلب نظام الحكم انطلاقا من مدرسة كفر الدوار الصناعية.