تملأ اليوم لوحات الفنان محمد عبلة صفحات الصحف والقاعات الفنية، وهى الأعمال التى تصور زحام البشر وتكدسهم بحثا عن أفق جديد. فقد بدأ الفنان مشواره مع هذه الأعمال منذ 1998 واعتبرها البعض نبوءة مبكرة لأحداث ثورة 25 يناير، حرص عبلة على الوجود فى ميدان التحرير حاملا آلة التصوير أينما ذهب، يصعد أعلى مرسمه فى وسط المدينة ليرى الجموع التى طالما حلم بها، ويستكمل عملا كان قد بدأه ويؤكد مازحا «كان نفسى الثورة تنجح كى أشعر أن لوحاتى كان لها مصداقية». اليوم يستأنف عمله كمدير لأتيليه القاهرة الذى تولاه قبل شهرين من اندلاع الثورة، ويعبر فى حواره ل«الشروق» عن أهمية حل وإصلاح المؤسسات الثقافية «لأن الثورة ما زالت مستمرة». كنت من أوائل الداعين لحل نقابة التشكيليين ثم دعيت إلى لقاء بالاتيليه مع وزير الثقافة يهدف لتحرير المجلس الأعلى للثقافة من قبضة الوزارة وإعادة هيكلته، ما هو تصورك للمرحلة الراهنة ودور المثقفين فيها؟ التركيبة التى تدير الثقافة تكونت بتراكمات تركز على فكرة الفردية، هناك مقرر لجنة ورئيس شعبة ورئيس جهاز ورئيس هيئة إلخ وكلها تحيل فى نهاية المطاف إلى وزير الثقافة، فهى تركيبة لا يمكن إصلاحها وينبغى تفكيكها بالكامل. فحين نجحنا فى التخلص من رأس النظام، كسبنا فى الحال شرعية لتفكيك أى شىء. ومثلما حدث مع رئيس الجمهورية السابق، ظل النظام القديم بتركيبته متغلغلا فى كل شىء، وهذا يتطلب هزات حقيقية. وبالتالى كان من الضرورى حل نقابة التشكيليين والاعداد لانتخابات جديدة تعبر عن جموع الفنانين فى ظل متطلبات التغيير. ●ولكن ألم تكن النقابة بمجلسها ونقيبها منتخبة بصورة ديمقراطية توافق عليه التشكيليون؟ هناك 70% من التشكيليين يعملون فى وزارة الثقافة، و20% أساتذة بالجامعات لهم مصالح مباشرة مع الوزارة ولذا كانت الأغلبية تسير وراء ميول وأهواء الوزير. ولهذا بمجرد أن طالبنا بحل مجلس نقابة التشكيليين استجاب المجلس. ومنذ أيام كانت هناك وقفة احتجاجية تطالب بتغيير اللائحة التى تضع قيودا شديدة على الالتحاق بالنقابة وتستبعد خريجى التربية النوعية وتستغرق سنوات طوال للاعتراف بفنان غير متخرج فى الكليات الفنية. فالثورة ثورة شباب ولا بد من توسيع الدائرة لتشمل كل هؤلاء. فمن الواضح أن الانجازات لا تتوالى بسلاسة بمجرد إطلاق شرارة الثورة ولكنها تتطلب الحدة والإصرار. ●أنجزت العديد من الأعمال منذ ثلاثة عشر عاما تتناول نزول جموع المصريين فى الشوارع، وأخرى عن علاقة المواطن برجل الشرطة، هل كنت تستشرف وتنتظر حدوث الثورة؟ كانت الصورة واضحة تماما فى ذهنى ومخيلتى، كنت أرى الناس تذهب فى عدة اتجاهات باحثة عن طريقها، ولذا بدأت مشروع لوحات جموع البشر منذ 1998 أسميتها أحيانا الزحام، أو «البحث عن هوية» وأحيانا أخرى «المتاهة»، وهناك إحدى اللوحات تتصور الميدان بكل انفجاراته. كان لدى أمل وإيمان عميقان بشباب المصريين، فهم يسبقوننا بكثير ويتمتعون بإحساس بالحرية يتجاوز جيلنا. كما أنى ما بين 2006 و2008 قدمت العديد من الأعمال التى لم تقبل عرضها القاعات المختلفة حيث كانت تستخدم الكولاج وتتصدرها شعرات مثل «من يحكم مصر بعد مبارك؟» أو «البحث عن رئيس». بالنسبة لى كان ضروريا أن تنتصر الثورة لأن هزيمتها كانت ستتحول إلى هزيمة شخصية بالنسبة لى. بالطبع كانت هناك إرهاصات قبل الثورة، وأول مرة شاركت فيها فى النزول فى الشارع كانت فى 2004 وسط حركة كفاية، لم نكن نتجاوز ال300 متظاهر، وكانت الشراسة التى واجهتها من الأمن المركزى كفيلة أن يتحول الأمر إلى ثأر شخصى. وكنت متابعا لصفحة كلنا خالد سعيد، وعرفت كم التشويه الذى تقوم به السلطة وتضليل الناس، وحين جاء يوم 25 كانت هناك حتمية للنزول وكنت قد كسرت حاجز الخوف عبر كل هذه التراكمات وعبر تجربة جزيرة القرصاية التى أثبتت لى أن هناك أملا فى انتزاع حقوقنا. ●معظم المعارض الفنية المقامة حاليا تدور حول الثورة أو لها علاقة بها بشكل ما، كيف ترى مستقبل الحركة الفنية؟ الثورة ما زالت مستمرة وهذا يتطلب استمرار النقاش وتحريك الوعى، كما أن إقامة المعارض والفن بشكل عام يسهم بشكل كبير فى التوعية وهذا ما نحتاجه فى الفترة القادمة. ففى فترة اعتصام التحرير ومنذ البداية لاحظت أن هناك فنانين أطلقوا كل طاقاتهم لعمل رسومات وكاريكاتير وأعمال مركبة نابعة من روح تلقائية مثل الأعمال التى شكلت على الأرض من الحجارة، أو هذا العمل المكون من سرج وقد كتب صاحبه تعليق «غنائم موقعة الجمل» إشارة إلى المعركة الدموية التى تزعمها بلطجية ضد المتظاهرين. أرى اليوم الضرورة الملحة لاحتضان هؤلاء الشباب وإعطائهم الفرصة، خاصة الأطفال المعتصمين مع أسرهم فى الميدان والذين انضم العديد منهم إلى الورش الفنية التى أقمتها فى الميدان على مدى ثلاثة أيام وكانت نتائجها مدهشة. دور المثقفين أن يوفروا المناخ المناسب لنأخذهم فى حضن الفن. فقد قمنا بثورة لا مثيل لها، كان بداخلها بائعو الفشار والبطاطا، ومعتصمون يذهبون للعمل ويكملون اعتصامهم، وآخرون ينامون فى التحرير لأنه المكان الأكثر أمانا لهم. فبالتالى ينبغى أن يتغير شكل الفن وعلاقتنا به وفكرة تسليعه، كل هذا ينبغى أن يتبع التغيير العام، وعلى الفنانين أن يلعبوا أدوارا كانوا قد تخلوا عنها، فهى فرصة اليوم لضبط علاقة الفن بالجمهور والفن بالحياة. ●وما تصورك عن هذه الأدوار المنوطة بالفنانين؟ أنا دائما أحلم أن يكون للفن دور، أن يكون هناك فنانون يقدمون تعليما للفن، وأن نجد مساحة ما لهؤلاء الذين دخلوا عالم الابداع بدون أى أطماع تتعلق بالقاعات الفنية وينبغى أن يكون لهم كيان معترف به. فهناك العديد من الجمعيات الأهلية اليوم التى تتواصل معى رغبة فى عمل توعية سياسية واجتماعية من خلال الفن، بحيث يكون الفن هو المدخل مثلما حدث فى مشروع «كوم غراب» بالاسكندرية الذى جمعنى بالفنان عادل السيوى وقمنا بربط العمل الفنى على واجهات البيوت بالتننمية المجتمعية. دور المثقفين الضرورى اليوم هو أن يساندوا الناس ويصبروهم لأن البلد لن تبنى فى يوم وليلة.