الآن اتضحت الدوافع التى جعلت العقيد معمر القذافى يندد بثورتى تونس ومصر اللتين أسقطتا النظامين فيهما كونه أدرك أن سقوطهما من شأنه إفقاد نظامه المناعة وهو ما أدى إلى شراسة تعامله مع الانتفاضات الحاصلة فى العديد من مدن الجماهيرية الليبية. بمعنى آخر، من كان عيّن نفسه وريثا لإرث الرئيس عبدالناصر القومى تحول إلى داعم لمن استمر فى دعم أحد أركان «الاعتدال» العربى الذى تم التعريف عنه إما بالصلح مع «إسرائيل» أو التلاقى فى المصالح الضامنة لأولوية المصالح الاستراتيجية الثابتة للولايات المتحدة، أى ضمان «أمن إسرائيل» كما تعرّفه نفسها، لا كما يحدده القانون الدولى أو القرارات الدولية، وكذلك استمرار تدفق النفط بأسعار مرضية للاقتصاد الأمريكى خاصة وللدول الغربية عامة، لكن ليس من المستغرب أن شراسة القمع الحاصلة تماثلت مع ما تقوم به هذه الدول من توفير حضور لقيادة الأسطول الخامس الأمريكى فى البحرين وحضور عسكرى كان سرا وصار علنا فى اليمن، التى دفعت شرائح كبيرة من شعبى اليمن والبحرين إلى مزيد من التجرؤ على النظامين فى كل من اليمن والبحرين بما يحرج بشكل واضح الخطاب السائد للرئيس أوباما ووزيرة خارجيته هيلارى كلينتون التى شرحت مضمونه فى محاضرة ألقتها مؤخرا فى البحرين قبل ثورة شباب مصر. لذا إن ما حصل ولايزال فى كل من اليمن والبحرين خاصة بعدما حصل فى كل من تونس ومصر يجعل الخطاب الأمريكى المتميز بالتزام الحريات الديمقراطية نقيض مستلزمات ومصالح الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة العربية، خصوصا أن استعمال «الفيتو» الأمريكى فى مجلس الأمن لقرار بشأن المستوطنات اليهودية أيده كل الأعضاء وهو ما أدى إلى إفشاله. هذه الاعتبارات الاستراتيجية يبدو أنها لاتزال تشكل مفاهيم وأولويات إدارة أوباما على الرغم من الخطاب الموضح للقيم الضامنة لحقوق وحاجات الإنسان كما ورد فى خطاب أوباما فى أنقرة والقاهرة بعد انتخابه. يستنتج أن الانتفاضات الشعبية تعى أن التناقض أو بالأحرى التلعثم فى بلورة السياسة الأمريكية فى الحالة العربية الراهنة يشجع على إجهاض ثورات التغيير من خلال استمرار تكثيف عملية إقناع الأنظمة بأخذ إجراءات تهدئة والابتعاد عن ممارسات القمع وتجاوب نسبى مع بعض المطالب الإصلاحية التى قد تردع عمليات تحدى الأنظمة، ومع تقديم «تنازلات» للمنتفضين كى يزول التلعثم فى السياسة الأمريكية، بما ينزع فتيل ما يهدد مصالح الولاياتالمتحدة التى يفترض أن تبقى منسجمة مع رغبة عارمة فى التغيير، أدت لغاية الآن إلى نجاحات تنطوى على إعادة النظر بسياسات داخلية ودولية تنطوى على ما يفترض أنها أولويات لأهداف العرب الوطنية، ما يستوجب على العالم أن يتعامل مع أصواتهم المشروعة بجدية، وباحترام مصداقية التزاماتهم. يستتبع ذلك أن المرحلة الانتقالية التى تمر بها مصر الثورة تشكل تحديا مصيريا لا لمصر وحدها، بل لأن إنجازات ثورة الشعب فيها تصبح مرجعية لتمكين قوى التغيير على المستوى العربى إجمالا وبالتالى التحول إلى بوصلة مضيئة لها كما لشعب مصر. هذا ما يجعل المرحلة الانتقالية الحالية بمنتهى الأهمية ومتابعة خطواتها حاجة ملحة للشعب المصرى من أجل تسريع مسيرة ثورات التغيير فى ما تختبره العديد من الأقطار العربية، والمتوقع أن تشمل كل أقطار الأمة. صحيح أن لكل قُطر أوضاعه الخاصة، لكن ما حصل فى كل من تونس ومصر أثبت أن اعتماد اللاعنف منهجا فى ممارسة الثورة أنجع فى الإقناع، لكن من دون التخلى عن حق الرد على عنف ممارسات وشراسة أساليب «البلطجية» والقمع حماية لاستمرار الثورة من استبداد وشمولية أنظمة تعتقد أن بإمكانها أن تبقى عصية على إلحاح الجماهير على التغيير. إذن، المرحلة الانتقالية الحالية فى مصر مفصلية بالمعنى الأعمق والأشمل لما تنطوى عليه كلمة المفصلية. بادئ ذى بدء يجب أن تتوافر ضمانات باعتراف المؤسسة العسكرية فى مصر بشرعية ثورة الشباب، لأن هذا يحمى الثورة ويسرّع فى إنجاز أهدافها المباشرة. المرحلة الانتقالية واكبها بعض الإجراءات الأولية وإن كان ليس بالسرعة المرغوبة لكن بمواصلة إجراءات، كما فى إلغاء مجلس الشعب والشورى وتشكيل لجنة لتعديل الدستور، ومواجهة الفساد كما فى تحديد مدة زمنية لانتخابات حرة وشفافة لرئيس الدولة ومجلس الشعب وأن الخطوات متسارعة ما يعنى أن مؤسسة الجيش تتصرف كأنها جسر التواصل والانتقال من شرعية الثورة إلى نظام قانونى جديد يضمن تنفيذ سياسات وإصلاحات جذرية تطالب بها الثورة الشعبية. وكان من المتوقع أن تشمل المرحلة الانتقالية إيجاد حكومة انتقالية من خبراء وتكنوقراط ملتزمين، كونهم أسهموا فى بلورة العديد من سياسات وقناعات ثورة الشباب وذلك يمنح مسيرة المرحلة الانتقالية الاستقامة غير المتوافرة فى حكومة تصريف الأعمال. لذا صار لزاما أن يتحول انبهار الشعب العربى فى جميع أوطانه إلى التزام بأهداف ثورتى تونس ومصر، وأن تعى هذه الشعوب أن الخروج من الإحباط والتهميش يتحول من كونه كان حالة سائدة وطاغية إلى ثورة شبابية هى الواقعية الجديدة بدلا من الواقعية الملغية للكرامة: بمعنى آخر أمامنا فرصة استعادة حيوية لم تعد مكبوتة، ويبرهن التجاوب العارم الذى تبديه الجماهير العربية باستحالة استمرار «طبائع الاستبداد» التى تحدث عنها عبدالرحمن الكواكبى، وأن الكرامة لم تعد شعارا نكرره، بل أصبحت واقعا مرشحا أن نعيه كأمة. الأهم بكثير أن نخرج من إطار «الاعتدال» المزور إلى نظام يستولد عدالة هى الامتثال لشرعية الثورة ومناقبيتها وما تنطوى عليه من تصويب للبوصلة العربية.