اللعنة على التصنيفات النمطية، والنظرة التقليدية، التى راحت تحجّم الإبداع، وتؤطره فى أجناس بعينها. هذا الكتاب جاء ينتصر للكتابة وحدها، أمام «عواجيز الفرح»، الذين يهدرون الوقت فى خناقات تكسر «المجاديف»، منشغلين بإطلاق الأحكام. جاءت «رسائل عبدالحكيم قاسم»، بعد عشرين عاما على رحيله، لتعرّف هؤلاء أن الكتابة الحلوُة تمتع قارئها حتى لو كانت مجرد «جواب» لصديق! ولا تفكر كثيرا أو تحتار، إنها فقط رسائل من رجل يستمتع بالكتابة والحكى. كانت بذرة الكتاب، عندما فكر الكاتب والصحفى محمد شعير فى عمل ملف عن القاص الراحل يحيى الطاهر عبدالله لنشره فى أخبار الأدب منذ سنوات، ثم اقترح عليه الناقد محمد بدوى إعداد ملف مماثل عن عبدالحكيم قاسم، ولما وجد أنها «تشكل نصا موازيا وكاشفا لتكوينه الثقافى»، فكر أن يجمعها فى كتاب بعنوان «كتابات نوبة الحراسة»، صدر أخيرا عن دار ميريت. استرسل محمد شعير فى مقدمة فاتنة، عرّفت صاحب الرسائل بصياغة أدبية عالية، لكنها من ناحية أخرى، فضحت شعير نفسه، لم يقدر على إخفاء همومه، وأوجاعه من ضيق الأفق الذى وضعنا فيه أنفسنا، ومن: «النظرة التقليدية لمفهوم الكتابة بأشكالها المحدودة (رواية، قصة.. وقصيدة)، بينما لا تعطى مساحة للأعمال الأخرى، مثل الرسائل وتعتبرها هامشية». كأنه يقول للبعض، أنظروا كيف يفكر المبدع الحقيقى فى الأدب. يحكى الكتاب: «عبدالحكيم قاسم من الاستثناءات النادرة فى الثقافة العربية. تسأله المحاورة: أين وجدت نفسك أكثر، فى القصة أم الرواية؟ فيجيب: فى الكتابة، حتى إذا كانت رسالة أو نصا نقديا، أنا أستمتع بالكتابة وأتذوق الكلمة، وحينما أكتب أنتشى ولا أستقر على مكتبى أبدا، أتمشى وأهتف بالكلمات وأرقص». الله يرحمك يا عبدالحكيم.. أكاد أسمعها من أصدقائه: إدوار الخراط، سعيد الكفراوى، ومحمود الوردانى، وغيرهم من أصحاب الرسائل، وهم يستعيدون تلك الأيام، التى كان يراسلهم فيها من برلينالغربية، أثناء عمله فى نوبات حراسته ليلا لقصر شارليتنبورج، كان «يقاوم الغربة بمحاورة أصدقائه فى رسائل طويلة»، يقولها شعير ويأتى برسالة من قاسم لصديقه وصهره الشاعر محمد صالح، تبين كيف كان فى «الحكى لذاذة ونجاة» لرجل مغترب، فى وقت لم تكن فيه ثورة للاتصالات. «فإننى إن سكت أغرق، أبقى وحدى مع هذه التصورات الغريبة فى أعماقى السحيقة، وما أنا بقادر على امتلاكها وسبرها حتى أفك طلاسمها، إنها تعمى عينى، تحيرنى، أنجو منها إلى أنس الصحاب، أقول حاكيا أو كاتبا، أقول بإلحاح وعصاب، فإن من ورائى الصمت». فى «رسائل عبدالحكيم قاسم»، الذى احتفلنا منذ أيام بذكراه، لن تقف متعتك عند معرفة أجواء كاتب بهذا الحجم أو النشوة بحلاوة كتابته، لكنك أيضا، سوف تتعرف على ملامح جيل الستينيات، الأكثر بزوغا فى تاريخ الأدب المصرى، ليس لأنهم الأفضل، وإنما بسبب الحالة التى كونوها معا فى مجالات الفن المختلفة. سوف تتعرف على ظرفهم السياسى وشاعراته، ترى صدماتهم، وصداماتهم، وهجرة أغلبهم إلى الخارج بعدما عوقبت مصر ب«جريرة نظام السادات، عقابا لم ينزل بأمة قبل ذلك أبدا»، قالها قاسم فى رسالة لصديقه سعيد الكفراوى، هجرة شبهها ب«تغريبة بنى هلال»، لم لا فأغلبهم غادر مصر فى أوقات متقاربة، غيبة طويلة ل«إبراهيم منصور، جميل عطية إبراهيم، بهاء طاهر، محمد روميش، صبرى حافظ، سعيد الكفراوى، محمد صالح، جار النبى الحلو، وعبدالحكيم». ولكنهم شقّوا سبيل رجوعهم إلى الوطن، «سيكون الأمر شاقا لا مناص. لا ضير أن تسقط أسنان إبراهيم أصلان، سيظل بالنسبة لى جميلا كأجمل ما يكون من الرجال. لا ضير من البلى والرثاثة والوسخ. الإنسان إذا هرم اقترب من الموت ومات، أما الوطن فإنه يولد من جديد، ثم يصير إلى الشباب والفتوة، ونحن فقط سنكون شموع السبوع، ونحن الجدعان الذين يدقون الكفوف فى الفرح». ربما يكون الكاتب سعيد الكفراوى قد حكى لزوجته وابنيه عن صديقه عبدالحكيم قاسم كما طلب منه فى الرسالة، كى لا ينظروا له كغريب عندما يزوره، لكن براعة الحكى عند الكفراوى وجدت الآن منافسا قويا بصدور هذا الكتاب، سوف يتذكرون يوم وصول الرسالة، ويستعيدون ليلة حكى فى شتاء 1984، عن صديق اسمه عبدالحكيم قاسم يعمل حارسا لأحد القصور بألمانيا الغربية. كانوا، قاسم وأقرانه، يفرحون ببعضهم البعض: «فرحت بديوان محمد صالح، إنه شعر مجيد وأنا سأكتب عنه، فلو أن أحدا كان قد كتب عنه للآن فقص لى المقالة وأرسلها لى». كانت الرسائل تربة خصبة للنقاش، وتقييم أعمال الأصدقاء، ومادة ممتعة للقراءة، وهى شاهدة على بواكير كتابة هذا الجيل. فى إحدى الرسائل للكاتب محمود الوردانى، يحكى عبدالحكيم تلقيه الأول لقصة بهاء طاهر «الخطوبة»، كرهها جدا، وعندما قال رأيه فيها لإبراهيم منصور فى جلسة شراب بباب الحديد، وأنها لم تعجبه، قال له منصور، أنت غبى. «ظللنا الليل كله نشرب، ونكرر الكلمتين بلا كلال، وأنا عقلى يعمل فى القصة، يعيد ترتيب كلماتها ويتحسس كل كلمة ويتذوق.. فجأة صرخت: إنها قصة هائلة! ابتسم إبراهيم منصور وقال لى: إنك بطىء الفهم. لم يخجل عبدالحكيم قاسم من الرجوع عن رأيه فى القصة، لأن الأمر نهاية فى محبة الكتابة، التى كانت بالنسبة له كالصلاة، «يجب الوضوء قبل الدخول إليها»، وكانت لا تزيد كثيرا عن محبة القراءة. هذا العمل نبتة نشطة، زرعها محمد شعير فى طين نأمل أن يكون خصبا، علها تكبر، وتلفتنا إلى أن الأفق أوسع مما نتصور، وأن التناقض والتخبط أمر مشروع، ويحيل صاحبه إلى التأمل، فأصدقاء الراحل لم يعلقوا له «حبل المشنقة» عندما ارتبك بين التصوف والإخوان والماركسية، لم يتهموه بالادعاء، أو يطاردوه بالاتهامات والسخرية عندما قرر الترشح للبرلمان، فالحياة دون تجارب فقيرة. ربما تثير الرسائل شجن البعض، وتقلب المواجع على ناس، ربما تنزلق دمعة أو اثنتان من عين صديق عندما يقرأ آخر رسالة فى حياة قاسم، إلى سمير سرحان رئيس هيئة الكتاب يرجوه فيها برفع أجره عن روايته «أيام الإنسان السبعة». لكن هذا لن يقلل من بهجة كتاب قام ب«مسحة ضوئية» على جيل باقٍ، فشكرا لمحمد شعير، وسلام عليك يا عم عبدالحكيم.