تمثل الانتخابات الأخيرة انتكاسة ثالثة لمطالب المصريين تاريخيا بالديمقراطية، حيث كان تحالف الاستبداد حائلا بينهم وبين قمع القمع وضبط التسلط المتمثل فى الخديو أو الملك أو الرئيس والشلة المحيطة بهم. والقضية ليست مرتبطة بشرعية (أى قبول الناس الطوعى لحكم) أى من هؤلاء بقدر ما هى مرتبطة بوضع قيود على السلطة الحاكمة من خلال مجلس نيابى يمثل فيه الأمةَ طائفة من أبنائها منتخبين بحرية ونزاهة، فمهما كان الحاكم صالحا، فهو بحاجة لمن يراقبه حتى لا ينحرف عن صلاحه. انتخابات هذا العام (لمجلسى الشعب والشورى) نتيجة منطقية لما شهدناه من تعديلات دستورية فى عام 2007، والتى تهدف إلى تكريس سيطرة الحزب الواحد على شئون الحكم فى مصر، وهو يشكل انتكاسة ثالثة لمطالب المصريين بديمقراطية حقيقية فى آخر 150 سنة. واسترجاع هذه المحاولات ينبغى أن يكون دافعا لعدم الاستسلام لليأس، وتكرار المحاولة وتعلم الدرس. كانت الانتكاسة الأولى خلال الأعوام من 1879 وحتى احتلال مصر فى 1882. ففى عام 1879 رفض أجدادنا من أعضاء «مجلس شورى النواب» قرار الخديو إسماعيل بحل المجلس لأنه «تجاوز» حدوده بمناقشة السياسة المالية للدولة وتقديم مقترحات بوقف إسراف الخديو ووزرائه. واستمر نضال أجدادنا حتى الثورة العرابية فى عام 1881 بقيادة الزعيم أحمد عرابى، والذى كانت مطالبه مع جنوده وفلاحى مصر لا تختلف كثيرا عن مطالب النخبة السياسية الوطنية حاليا. فقد أجبر جدنا الفلاح أحمد عرابى الخديو توفيق على العمل بالدستور وتشكيل مجلس نيابى له صلاحيات واسعة بعد أن مضى إلى قصر عابدين مع 4000 من الجنود وجموع الشعب، التى تجاوزت الآلاف وعرض أحمد عرابى مطالب الشعب، وعلى رأسها عودة مجلس شورى النواب المنتخب من الشعب واحترام دوره فى التشريع والرقابة. فرد الخديو بقوله: «لاحق لكم فى هذه المطالب فأنا ورثت هذه البلاد عن آبائى وأجدادى وما أنتم سوى عبيد إحساناتنا». فقال أحمد عرابى فى شجاعة وكرامة: «لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا فوالله الذى لا إله إلا هو إننا لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم». وقد صدق أحمد لطفى السيد حين قال عن هذا الفلاح العظيم: «لعرابى حسنات رضيت عنها الأمة، والحسنة الكبرى هى الدستور، فالدستور المصرى من عمله ومن آثار جرأته. طلبه عرابى لا بوصفه أنه عسكرى ثائر ولكن بوصفه أنه وكيل وكلته الأمة فى ذلك، فإن عريضة طلب الدستور كانت ممضاة من وجهاء الأمة ومشايخها، فعرابى حقق آمال الأمة بالدستور». ولكن أخفقت محاولة أجدادنا الفلاحين، وهذا الوصف شرف على جبين كل مصرى يعرف مقدار ما ضحى به هؤلاء من أجل كرامة أبنائهم الذين هم نحن. وكان سبب الإخفاق هو تحالف التسلط والاستبداد، والذى كان رمزه الخديو توفيق المستبد والإنجليز الأكثر استبدادا، والذين أرادوا الديمقراطية داخل بريطانيا واجتهدوا فى حرمان العالم منها. وتكلل جهد أجدادنا فى ديسمبر عام 1881 بافتتاح المجلس النيابى المنتخب، ولكنه أثار خوف فرنسا وإنجلترا من هذه اليقظة الوطنية، التى ستقف حائلا ضد مطامعهم الاستعمارية فأصدرتا مذكرة مشتركة فى يناير عام 1882 لوقف العمل بالدستور وحل المجلس وضرب التجربة الديمقراطية الناشئة. ورفضها أجدادنا هذه المذكرة رغم موافقة الخديو عليها كعضو أصيل فى تحالف التسلط والاستبداد. ومضت الأحداث إلى اشتعال القتال بين جيش أجدادنا وبين القوات البريطانية، التى تدخلت بطلب من الخديو توفيق، ثم هزيمة أجدادنا فى معركة التل الكبير. ولم يغب عن بريطانيا أن الجسد المصرى كان بحاجة لعقل مفكر تمثل فى أحمد عرابى بثورته الوطنية الشعبية ذات المطالب الديمقراطية، وهو ما ظهر فى رد فعلها سياسيا فور احتلالها لمصر، عندئذ نصح سفير بريطانيا فى اسطنبول ومبعوثها الدبلوماسى فى القاهرة، والذى كان فى ذات الوقت المستشار السياسى للخديو للعمل ضد مصالح أجدادنا بأن يلغى النظام النيابى، الذى عرفته البلاد فى فترة إدارة العرابيين للحكم ونبذ أى أفكار عن الديمقراطية والدستور على أساس أن «الديمقراطية لا تصلح أصلا فى مجتمع من الفلاحين». وجاءت المحاولة الثانية مع ثورة 1919، ومرة أخرى، يخرج من أبناء هذا الوطن رجال يملكون الرؤية والشجاعة لخصوا مطالبهم فى كلمتين: الجلاء والدستور. وما الدستور الذى كان يقصده آباؤنا هؤلاء إلا ما نعنيه نحن اليوم من قمع التسلط والاستبداد ومحاربة الفساد وتزوير الانتخابات. ونجح آباؤنا فى فرض دستور 1923 ثم انتخابات شهدت نجاحا كاسحا لحزب الوفد ثم تشكيل أول برلمان فى عام 1924. ولكن تحالف الاستبداد والتسلط لا يريد بهذا البلد خيرا، فيتحين الملك، متحالفا مع الإنجليز أو منشقا عليهم، كل فرصة كى ينال من حزب الأغلبية بحل البرلمان كى يعطى لنفسه سلطات أوسع وصلاحيات أكبر بلا رقابة عليه قدر المستطاع. وخلال الفترة من 1923 وحتى 1952 شهدت مصر عشرة برلمانات كلها، خلا واحدا، لم يكمل دورته البرلمانية، وأحدها استمر نحو 8 ساعات لأن الملك فؤاد لم يطق أن يرى زعيم الأمة سعد زغلول رئيسا لمجلس النواب، فقام بحل البرلمان فى نفس يوم انعقاد أول جلساته فى 23 مارس 1925. وهكذا دائما المستبدون إما يتحدون إرادة الأمة أو يزيفونها ويطلقون على فعلتهم: أزهى عصور الديمقراطية، والعرس الانتخابى. وجاءت الثورة لترفع شعارات الاشتراكية والقومية العربية ومحاربة الاستعمار ولتجعل الديمقراطية آخر أهدافها الستة ثم تنزوى لصالح «الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية» كما قيل آنذاك. وأتت المحاولة الثالثة التى عاش الجيل الحالى فصولها مع ما سُمى بربيع الديمقراطية فى 2004 حتى قضى عليه خريف التسلط فى 2010. فقد استقرت حدود مصر بعد عودة سيناء فى أوائل الثمانينيات، واستقر المجتمع بعد مراجعات الجماعة الإسلامية فى أواخر التسعينيات، ثم أتت الضغوط الخارجية بعد أحداث سبتمبر، مع تعنت النخبة الحاكمة فى مسألة الإصلاح السياسى وتصبح قضية الإصلاح السياسى على رأس أولوية فئة من شرفاء السياسيين، والمثقفين، والقضاة. وقاد هذه المطالب فئة من الفاعلين السياسيين لم يرق أى منهم لمنزلة عرابى أو سعد زغلول، أو ربما لم نرق نحن لنكون فى منزلة أجدادنا وآبائنا من فلاحى مصر النبلاء، الذين كانوا حول عرابى أو سعد زغلول. المهم نجح هؤلاء فى أن يجبروا النظام على تقديم بعض التنازلات، التى ما لبث أن تراجع عنها بعد تعديلات 2007 الدستورية. ويظل العوار الأكبر فى هذه المطالب أنها تأتى من قيادات غير متفقة على شكل الدولة التى تعمل لها، وما دور الدين فيها، ومدى قدرتها على تحييد الفاعل الخارجى، الذى يجد مصلحته مع استمرار الاستبداد. ويستمر أمل المصريين فى حياة نيابية سليمة معطلا بسبب تحالف الاستبداد والتسلط من ناحية وسلبية الكثير من أحفاد عرابى وزغلول من ناحية أخرى. وليعلم الجيل الجديد أن لنا أجدادا عظاما ناضلوا وضحوا من أجلنا، ولا ينبغى أن يتوقف هذا النضال، ولا هذه المطالب بحياة نيابية سليمة ما دمنا نريد الحياة بكرامة. على هذا الجيل أن يستعد لمحاولة رابعة تبدأ الآن وعسى أن تؤتى ثمارها فى حياتنا.