حملت الطلة الأولى لمهرجان القاهرة السينمائى بادرة طيبة ونوايا حسنة وإصرارا على أن تكون الدورة الرابعة والثلاثون هى بداية جديدة لاسترداد المهرجان عافيته، وبدون شك فإن النوايا الحسنة لا تكفى وحدها لارتداء المهرجان الثوب الذى نفتخر به ويثبت بحق مكانته الدولية وسط مهرجانات السينما الكبرى، كما أن المبادرات الطيبة تحتاج لعزيمة وإرادة وإصرار وتجديد فكر وعين ثاقبة وتكاتف ودعم حكومى وفنى وجماهيرى أيضا. قال النجم الكبير عمر الشريف فى حفل الافتتاح «إن هذه الدورة مميزة جدا ومن الصعب تكرارها لأنها تستضيف نجوما بارزين منهم النجمة الفرنسية جوليت بنيوشى التى حصلت على جائزة الأوسكار أحسن ممثلة والنجم الأمريكى ريتشارد جير الذى لا يصيبه العجز أبدا». حاول الشريف النجم المخضرم والرئيس الشرفى منذ اللحظة الأولى أن يمنح المهرجان أملا وأن يشعره بالحياة وبالمكانة التى يستحقها، وفى الوقت نفسه تلافى أبوعوف هواجس أى تراجع وكله ثقة فى النفس عندما قال: «إنه يعتز جدا كونه رئيسا لمهرجان القاهرة للسنة الخامسة على التوالى وإن القاهرة يحتل عن حق المكانة الأولى بين جميع المهرجانات العربية. ونحن نتمنى أن تتمحور الثقة لفاعلية أكبر من أجل هذه المكانة بحق ألا تكون مجرد أوهام أو أحلام وشعارات. جاءت الطلة الأولى وهى تحمل تغيرا بداية من استعراض حفل الافتتاح الذى جاء مركزا وبسيطا وسريعا وتخلص الاستعرض السنوى لأول مرة من حالة الملل التى كانت تصاحب وقته الطويل. ثم كانت الطلة المدهشة مع فيلم الافتتاح الانجليزى «عام آخر» وهو اختيار حسن من إدارة المهرجان رغم عرضه فى مهرجانات أخرى دولية وعربية، ورغم ضآلة حجم الحضور فى صالة عرض المسرح الكبير بالأوبرا.. فلم يشاهده سوى نحو 15 فردا قطعا لا يوجد بينهم نجم مصرى المهم أن الفيلم يعد بحق تحفة سينمائية إنسانية خالصة موضوعا ورؤية وأداء وصورة وحوارا وسيناريو.. وهذا قطعا يعود لمخرجه الساحر والمفكر السينمائى مايك لى، وهنا أقول «مفكر» لأنه يأخذ بيد المجتمع.. «يحابى» على إنسان اليوم يفكر معه وله، يعيش معه لحظته، يخترقها، يتعمق فى مشاعره حتى غير المعلنة للآخرين، يحلق بروحه حتى يواجه الواقع ويتمرد على ما يعكر مسيرة حياته البسيطة به. والفيلم تدور أحداثه فى إطار عائلى حول أسرة توم وجيرى وهما زوجان يعيشان حياة هادئة وسعيدة ومستقرة على الرغم من كونهما فى خريف العمر.. هما محاطان بأصدقاء يعانون درجات متفاوتة من اليأس وضبابية الأيام بسبب الإحساس بالوحدة، وهو الشعور الذى صوره الإنجليزى مايك لى بعذوبة ونعومة شديدة، دون أى افتعال أو مغالاة فى العلاقة بين ما نراه على الشاشة وما يتركه داخلنا من تأثير وما أدراك ما هذا التأثير. شخصيات الفيلم نمت بانسيابية وكأنها من لحم ودم نعايش تصرفاتها وردود أفعالها. وكان أداء النجمة أوليفر مالتمان رائعا وهى تفيض أحاسيس ومشاعر عاكسة الصورة المؤلمة للإحساس بالوحدة بعد أن مرت بتجربتى زواج انتهيتا بالانفصال.. ظلت تكابر للعثور عن شخصية تواصل معها ما تبقى من أيام فى رحلة العمر دون جدوى.. وإن كان الفيلم يمر بفصول العام: صيفا، شتاء، خريفا، لكن لن يأتى لها ربيع أتذكر تماما قول مايك لى «معظم أفلامى تنتمى إلى عالم داكن ومحبط بسبب ما نفعله حيال العالم وما يصنعه للآخر». وأرى أن فيلم مايك لى ليس عن سعادة أو حزن شخصياته لكن هى شخصيات مختلفة تعيش لحظة صادقة فى أوضاع تختلف أسبابها وظروفها من فرد لآخر، قد كان الأمر يتطلب وجود آخرين حولها قريبين منها لتظهر حقيقة حياتها.. وهو بحق ما نحتاجه.. نحتاج لآخرين بجوارنا ليكشفوننا أمام أنفسنا فنعترف بواقعنا دون أحداث صدمة كبيرى. فى فيلم «عام آخر» كان من حق النجمة ليزلى مانفيل أن تشعر بحسرة لعدم حصولها على جائزة أفضل ممثلة فى مهرجان كان.. لأنها كسبت الرهان الإنسانى فقد كان الأمر بديعا، وربما يكون هو فصل الربيع الذى يكمل فصول الفيلم الإنسانية الأربعة.