ابتكرت العلوم الاجتماعية مدخلا ترجمناه باللغة العربية على أنه «الواقع المضاد Counterfactual» وإن كنت أرى أن الترجمة ليست دقيقة ولا تحمل المعنى الأصلى وعليه فسأهتم بالفكرة وأشرحها على أنها «التحليل بالاستبعاد الافتراضى» أى سنعيد تحليل بعض الوقائع مع سؤال «ماذا لو» تغيرت بعض العوامل التى شكلتها مثلما حلل ماكس فيبر مصير ألمانيا لو لم يشن بسمارك حرب 1866 التى وحدت الأقاليم الألمانية. سأستند لنفس الفكرة لأسأل: ماذا لو كان محمد على ظهر فى الولاياتالمتحدة؟ وماذا لو ظهر جورج واشنطن فى مصر؟ مع ملاحظة أن الشخصين عاشا فى نفس الفترة تقريبا. هل كان سيقوم محمد على بشن مذبحة فيلادلفيا (على نمط مذبحة القلعة) بقتل الخمسة وخمسين ممثلا عن ولاياتها الثلاث عشرة المستقلة فى عام 1787 ليتخلص منهم ويحكم الولاياتالمتحدة حكما انفراديا مثلما فعل فى مصر؟ أم أنه كان سيواجه بما لا قبل له به من أشخاص لهم رؤية فلسفية عميقة تختلف عن المماليك الذين كانوا مستعدين لمعارضة أى حاكم ينال من امتيازاتهم وصلاحياتهم غير المحدودة؟ قطعا كان سيواجه جيمس ماديسون العبقرى الأمريكى الذى قرأ كل كتاب ظهر فى آخر 200 سنة عن الحكم وإدارة شئون الدولة باللغات الإنجليزية واللاتينية واليونانية ليقول له إن أى حكومة جمهورية تقوم بمهام مزدوجة: «عليها أن تحكم الجمهور بالقوانين التى يسنها ممثلوه، وعليها أن تضع نفسها تحت تصرفه من خلال انتخابات تنافسية منتظمة وحرة نزيهة». قطعا كان سيلتقى ويليام جيفرسون المتشكك فى الحكومة والرافض لأن تتدخل فى شئون المواطنين إلا بالقدر الذى يسمح به المواطنون أنفسهم ليقول له: «إن أعظم حكومة هى حكومة الحد الأدنى» ولأن جيفرسون هو صاحب التعديلات العشرة الأولى فى الدستور الأمريكى والتى ترصد جميع الحقوق المدنية والسياسية التى لا يمكن للحكومة أن تنتهكها مثل حق الرأى والتعبير والتجمع وحرية الاعتقاد والديانة والتدين والتقاضى النزيه، فقطعا سيقف جيفرسون أمام الباشا معارضا لأى حكومة مركزية تجعل من الباشا الصانع الأول والزارع الأول والتاجر الأول والمشرّع الأوحد. قطعا كان سيختلف معه فى سيطرة الدولة على الصحافة، فجيفرسون هو الذى أقنع الرأى العام بآرائه من خلال مناظراته مع عبقرى الاقتصاد السياسى أليكساندر هاميلتون من خلال مقالات كل منهما فى الصحف حتى انتهى جيفرسون للقول: «لو لى أن أختار بين حكومة بلا صحافة حرة، أو صحافة حرة بلا حكومة، لضحيت بالحكومة». ولو قرأنا النقاشات الذى كانت تتداولها الصحف الأمريكية آنذاك لعرفنا أن رفع مستوى النقاش الفكرى فى صحفنا وإعلامنا من الفرائض لأى أمة ناهضة. لقد كان سهلا للغاية فى مجتمع من الأمية السياسية (وهذا ليس بعيدا عن حالنا الآن) أن ينفى محمد على كبير الأشراف عمر مكرم الذى قاد الثورة ضد الفرنسيين ثم قاد العلماء والأعيان للثورة ضد الوالى خورشيد حتى استقر الحكم لمحمد على بل وألبسه السيد عمر مكرم بنفسه (الكرك والقفطان) شعار الولاية عام 1805 فى موكب وطنى عظيم بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق أن يحكم بالعدل وألا يبرم أمرا إلا بمشورة العلماء. لكن فى ظل الأمية السياسية للمصريين (وهو مرض لم نزل نعانيه) لم يكن صعبا أن يخل الباشا بكل تعهداته. هل كان محمد على يستطيع أن يفرض سلطته وسلطانه على مجتمع قررت نخبته وجماهيره ألا تقبل عن الحرية بديلا مثل المجتمع الأمريكى؟ لا أعتقد. إن دولة محمد على التى صنعها فى مصر لم تزل حية، هى دولة التسلط ولكنها فى زمننا هذا مكبلة بالرخاوة والتفكك. وسنلاحظ أن دولة جورج واشنطن التى صنعها فى الولاياتالمتحدة لم تزل حية أيضا، هى دولة فيها الكثير من الديمقراطية رغما عن الكثير من مثالبها والتى يكتوى بها ضعفاء العالم، لكنها على الأقل مفيدة للأمريكان داخل أمريكا. ولنسأل السؤال المقابل: ماذا كان سيفعل جورج واشنطن حينما يلتقى بعمر مكرم ومشايخ الأزهر؟ هل كانوا سيبايعونه حاكما إلى الأبد استمرارا لتقاليد الأمويين والعباسيين بشرط مشورتهم؟ أم كانوا ربما سيسعون إلى «مأسسة» (أى وضع قواعد مؤسسية ودستورية وضمانات قانونية) للإرادة الشعبية التى طردت خورشيد باشا وجاءت بجورج واشنطن الجنرال الذى أنهى معاركه من أجل تحرير المستعمرات الأمريكية، وفور انتهاء مهمته ذهب إلى المجتمعين فى فيلادلفيا يقول لهم: «السادة ممثلى الولاياتالأمريكية، لقد وضعتم فى رقبتى مهمة طرد الإنجليز من المستعمرات.. وهذا ما أنجزته. شكرا على ثقتكم، وأرجو قبول اعتزالى العمل العام كى أعود مواطنا مدنيا مرة أخرى». وقد فعل، عاد إلى مزرعته فى فيرجينيا دون أن يحول مكسبه العسكرى إلى أى مكسب سياسى. وهو ما جعل ملك بريطانيا فى تلك الفترة لا يصدق ما قيل له عما فعله جورج واشنطن، وقال: «لو صدق ما تقولون عن هذا الرجل، فسيكون واحدا من أعظم الأسماء الذين سيذكرهم التاريخ». وقد كان. جورج واشنطن لم يكن باشا، ولكنه كان رجلا قارئا للتاريخ، عكس محمد على باشا الذى كان لا يجيد القراءة والكتابة، وكان واشنطن شديد الإعجاب بماركوس أوراليوس الإمبراطور الفيلسوف الذى أعطى حياة دامت 300 سنة للإمبراطورية الرومانية بعد أن كادت تنهار تماما فى أعقاب حكم نيرون المجنون وكاليجولا المعتوه. غالبا كان سيجتمع جورج واشنطن مع عمر مكرم ورجاله حيث يريدون له دون أن يتآمر عليهم، وقد فعلها حقا. فبعد أن انتخب رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية بالإجماع فى نيويورك عاد إلى مزرعته وظل الكونجرس مجتمعا فى نيويورك ووجد أعضاء الكونجرس أن مراسلة رئيس الدولة حيث يقيم أمرا شديد الصعوبة، فطلبوا إليه أن يختار عاصمة للبلاد يعيش فيها وتكون قريبة من نيويورك. ولأن للرجل أنصارا يعرفون قدره، وإن كانوا لا يملكون بصيرته، فأرادوا الانتصار له ورد «الإهانة» المترتبة على «طلب غير لائق» من رئيس البلاد بأن يغير محل إقامته. ولكن الرجل، بلا أى تآمر، وبكل تواضع قال: «يعيش رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث يريد له ممثلو شعب الولاياتالمتحدةالأمريكية». كم سنة حكم محمد على باشا مصر؟ حوالى أربعين سنة. كم سنة حكم جورج واشنطنالولاياتالمتحدة؟ ثمانى سنوات. هل لعجز فى واشنطن وعدم القدرة على الاستمرار؟ الإجابة لا، بل هى البصيرة التى تليق بعظماء درسوا التاريخ وتعلموا دروسه. قرر الرجل أن يكتفى بسنوات حكمه الثمانى إيمانا منه بترسيخ قاعدة ظل متفقا عليها حتى التعديل الدستورى الثانى والعشرين فى 1951 حيث تحولت القاعدة الشخصية التى أرساها جورج واشنطن وخالفها شخص واحد (فرانكلين روزفلت الرئيس ال32 لظروف الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية) إلى قاعدة دستورية ملزمة للجميع. حتى إنجازات محمد على الكثيرة انهارت مع موته، لأنه صنع الوطن ولم يصنع المواطن؛ وهذه هى فضيلة الديمقراطية الحقيقية التى لم نعرفها فى تاريخنا قط. هناك بعض الدروس التى يمكن أن نستفيدها من العرض السابق: دروس بشأن القيادة ودورها؛ دروس بشأن النخبة المحيطة وتأثيرها؛ دروس بشأن الوعى السياسى ومحوريته