كتب مارفن ليزرسن فى مجلة ال«Chronicle of Higher Education» مشيرا إلى أنه خلال نصف القرن الذى تلا الحرب العالمية الثانية، بنى الأمريكيون حلمهم على ثلاثة أسس: منزل جديد، وسيارة جديدة، وتعليم عال. وبمرور الوقت سيطر التعليم العالى على الحلم، لأنه كان تعبيرا عن المستقبل والأبناء وفرص أفضل فى الحياة. ونظرا لأنه صار الطريق الوحيد لعدد متزايد من المهن، والطريق الرئيسى للنجاح الاقتصادى، فقد جلب المزيد من التوقعات والأموال، وزادت أعداد الملتحقين بالجامعات. وأصبح التعليم العالى من أنجح الصناعات الأمريكية، كما صار هدفا للاستياء والغضب. ولا تكاد تكون هناك صناعات نمت بالسرعة نفسها، أو اكتسبت المكانة نفسها، أو أثرت على حياة هذا الكم من البشر. وتلقى التعليم العالى أموالا ضخمة من الحكومات الفيدرالية والإقليمية وأجهزة الحكم المحلى. وقدم الخريجون والمؤسسات منحا سخية. ولجأت الأسر إلى مدخراتها واقترضت حتى يتمكن أبناؤها من الالتحاق بالكليات. وأظهرت صناعة التعليم مثلها مثل صناعة السيارات مهارة ملحوظة فى التسويق وإضافة مؤسسات، وبرامج، ومنشآت جديدة. وعلى غرار قطاع الإسكان، تقدمت فى تعليم الأفراد كيفية الحصول على التمويل، كما خلقت مساعدات مالية بجرعات سخية من الأموال العامة. وبحلول العقود الأخيرة من القرن العشرين، كانت الكليات قد حققت احتكارا باعتبارها وكالات تمنح التراخيص للأمريكيين الذين يريدون تحسين فرصهم الوظيفية. وسعت كل المهن إلى زيادة مكانتها ودخلها بجعل الحصول على درجة جامعية (أو أعلى) شرطا للالتحاق بها. وصار استكمال تعليم المرء أمرا ضروريا مع تدهور سوق التوظيف بالنسبة لغير الحاصلين على درجات جامعية، الذين انتهى بهم المطاف بالعمل فى مطاعم الوجبات السريعة. ومع الطلب المتصاعد على الالتحاق بالجامعات، وتوافر الأموال الحكومية والخاصة لذلك، ورغبة كل ولاية ومجتمع محلى فى أن يكون له كليته أو جامعته الخاصة، كان من السهل على التعليم العالى أن يفرض السعر التى يمكن فيض الراغبين من الالتحاق. وفى الثمانينيات، تجاوزت الرسوم معدل التضخم ومعدل نمو دخل الأسر المتوسطة بشكل كبير، حتى بدا التعليم العالى مثل أى قطاع جشع آخر. وجلبت التسعينيات تدفقات متجددة من الأموال وأيديولوجيا السوق الحرة، مما جعل الكليات والجامعات موازية بدرجة أكبر للصناعات الأخرى. واستطاعت المؤسسات ذات الأوقاف والأموال الضخمة، الاستثمار فى الأسواق المالية والحصول على عوائد ضخمة، بينما انخرطت المؤسسات التى لا تملك فائضا من المال فى حملات جمع الأموال واستأجرت مستشارين لمساعدتها كى تصبح أكثر ثراء. وانفجرت فقاعة الانترنت نحو عام 2000، ولكن سرعات ما تلاشت ذكريات الصدمة، حتى جاء العامان 2008 و2009 بعواقب مالية مدمرة. واتضح أن صناعة التعليم العالى، والروح التى غذتها، لم تكن تختلف كثيرا عن صناعتى الإسكان والسيارات. ومع صعود التعليم العالى كصناعة عملاقة، اكتسب أساتذة الجامعة أيضا مكانة شعبية هائلة. واختفت الصورة النمطية للأستاذ شارد الذهن المرتبك، وحل محلها عدد متزايد من مستشارى الحكومة، والمحللين السياسيين، ومستشارى الشركات، والمعلقين الإعلاميين. وصار الأساتذة وهما أبرز أعضاء هيئة التدريس عمالا أحرارا، يبيعون أنفسهم فى سوق العمل المتحركة. وأصبح اتخاذ القرار بيد هيئة التدريس فى الحرم الجامعى، أو كما يعبر الإداريون عادة عن المبدأ الرئيسى للحياة الأكاديمية: هيئة التدريس هى قلب المؤسسة. حتى جاءت الثمانينيات؛ حيث كانت روح جديدة قد رسخت نفسها، وهى روح كانت تنمو بصورة مفرطة للغاية وقوية؛ إنها روح السوق. وعلى الرغم من أن التوجه نحو السوق كان موجودا دائما فى التعليم العالى، صارت للسوق كقوة قاهرة ثقلا كاملا جديدا فى نهاية القرن العشرين. فقد جاء معها تحول هائل لميزان القوة فى التعليم العالى. حيث تكاثر مديرو المؤسسات. وازدادت سلطة مجالس الإدارة. وجاء الأعضاء الأكثر نفوذا فى المجالس من عالم الأعمال، لافتراض أنهم يفهمون طبيعة الأسواق الاقتصادية. وصار الطلاب أكثر أهمية من قبل لأن مدفوعاتهم الدراسية المتزايدة باستمرار أدت إلى استقرار الموازنات، وأعلت مهاراتهم العلمية مكانة جامعاتهم. فتوقعوا أن يلقوا معاملة جيدة كعملاء، وافترضوا أكثر فأكثر أن شهاداتهم الجامعية ستكون قيّمة فى سوق العمل. وفقد أعضاء هيئة التدريس النفوذ، بعدما كانوا ذات يوم أهم صانعى القرار. ومع أنهم احتفظوا بأمور مثل تعيينات هيئة التدريس، فإن القرارات المهمة حقا، مثل توزيع موارد المؤسسات، وما إذا كانت تذهب لقسم دراسة الأحياء أو لقسم التاريخ، أم إلى دراسات الجديدة كالسياسة العامة أم تذهب إلى خدمات الطلاب أو برامج الزمالة لطلاب الدراسات العليا، لم تكن ملكا لهيئة التدريس. ومع زيادة نسبة الأساتذة العاملين بنظام الدوام الجزئى، تزايدت الانقسامات داخل صفوف هيئة التدريس، ليزيد تقلص سلطة الأساتذة. وفى الوقت نفسه صارت حقوقهم ومسئولياتهم محل تساؤل. هل هو صحيح أن لديهم حصانة من الفصل؟ وهل يقومون بالتدريس 12 ساعة فقط فى الأسبوع؟ كانت مثل هذه الأسئلة هى الوجه الظاهر من الاستياء المتزايد. وبدت القواعد الأكاديمية نفسها، التى كانت قلب الحياة الأكاديمية، كما لو أنها حواجز ضد أساليب جديدة للتعلم، وبدا أن سلطة الأقسام الأكاديمية تعمل بالأساس على تقويض القرارات التى تتخذ لصالح المؤسسة ككل. وأدى تضخم حجم التعليم العالى كصناعة، وما أحاط بها من توقعات، إلى أن أصبحت هدفا سهلا. وفى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بدا أن صناعة السيارات تنهار، ومعها سوق العقارات وهما اثنتان من دعائم النجاح فى أمريكا. وصارت تداعيات إخفاقهما ثقيلة للغاية منها الطمع واللامبالاة القاسية بالبيئة والتهاون فى مواجهة المنافسة الأجنبية، بالإضافة إلى تقييد الائتمان. ورغم أن صناعة التعليم العالى لم تشهد انهيارا، لكنها واجهت اتهامات مماثلة لما واجهته صناعتا السيارات والعقارات، حيث لاقت توبيخا بسبب تقديم منتجات وخدمات مرتفعة الثمن ومنخفضة الجودة، تتسم بانعدام الكفاءة والبيروقراطية، وانعدام الرغبة فى مسايرة الأسواق الجديدة، والتخلف التكنولوجى، والتضخم الإدارى، وعدم الاهتمام بالتدريس، ووضع الأهمية على الإضافات غير الضرورية عوضا عن المنتج الأصلى. ولكن ربما تعيد صناعة السيارات تشكيل نفسها؛ فالأمريكيون عندهم موهبة إعادة البناء. وسيكون علينا أن ننتظر بعض الوقت لنرى النتيجة. وماذا بالنسبة للتعليم العالى؟ فهو يحاول أيضا إعادة صياغة نفسه. وعندما انخفضت أموال الأوقاف فى أغنى الجامعات بنسب تتراوح بين 25 و30 فى المائة، تراجعت المنح، وواجهت الولايات الإفلاس، وارتفعت على نحو كبير تكلفة النشاط المعتاد. فتم اتخاذ جميع الخطوات الواضحة: تخفيض عدد العاملين والبرامج، وإلغاء الاستثمارات الرأسمالية، وتأجيل مشروعات الصيانة، وإعادة التفاوض بشأن الديون، ووقف الزيادات فى الأجور، وحزم المساعدات المالية. ومع ذلك، كان لتأجيل الصيانة عواقب خانقة، لأن التكاليف تتصاعد بمرور الوقت. ويتسارع تحول هيئة التدريس بنظام الدوام الجزئى، وليس هناك من يعلم العواقب. وزادت كثافة استخدام قياسات التكلفة مقابل الربح التى تستخدم بالفعل منذ التسعينيات لتحديد التعليم الذى ينبغى تقديمه، أو نوعية الأبحاث التى يجب إجراؤها، بينما يبدو أن هدف تحقيق أكبر قدر من الإنصاف للطلاب فى سبيله للتلاشى. ومما يدعو للإحباط أن 45 فى المائة تقريبا من الطلاب الملتحقين بالجامعات يفشلون فى التخرج، وتزداد النسبة بين طلاب الأقليات والطلاب الذين ينتمون لأسر منخفضة الدخل. وما يزعج هو أن الطلاب يحصلون على قدر من التعليم أقل كثيرا مما يجب أن يتلقوه. وقد جعلت التكنولوجيا جميع أشكال التعليم غير مقيدة بمكان، كما جعلتها بلا حدود، مما يثير التساؤلات حول مستقبل العديد من المؤسسات التعليمية ويفتح مجال فرص العمل الحر. ويعتبر الطلاب الكبار المهتمون بالتدريب المهنى عملاء أساسيين للتعليم العالى ربما أكثر حتى من الفئة العمرية التى كانت تمثل الطلاب من قبل، وهى الفئة بين 17 و22 عاما. وما زالت العوائد من التعليم العالى مرتفعة، ولذلك سوف تستمر الرغبة فى الالتحاق به. وذلك يعنى أن بيع وشراء التعليم العالى سوف يزداد كثافة. فالجامعات الخاصة جاءت لتبقى. ولن تنتهى الاحتجاجات داخل وخارج قطاع التعليم العالى.