تحت شعار «تعال لتكتشف عالما جديدا» بدأ مهرجان أبوظبى السينمائى الدولى وكله آمال بأن يترك هذا العالم تأثيره عليك.. تقف.. تتأمل، تفكر، تبكى، تصرخ، تعيد كل حساباتك مع نفسك، تحاول أن تقرأ الزمن من جديد لتعرف إلى أين ستأخذنا الأيام فى هذا العالم المقسوم نصفين: الأول غارق فى واقعيته ومآساته والثانى يرتدى ثوب التشتت لآفاق بلا حدود فى الخيال العلمى. طموح مهرجان أبوظبى يستند إلى قاعدة راسخة من أفلام متنوعة بعضها يحمل الدهشة الأولى لمشاهديه والبعض الآخر طاف مهرجانات أخرى وجاء بكامل إثارته ورواجه لمشاهد المنطقة. لكن تبقى أفلام المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة لتشكل وعيا سينمائيا مستنيرا لدى منظمى المهرجان فى طلته الجديدة. فى أفلام المسابقة شاهدت فيلما لو كانت أحداثه واقعية سيكون ذلك بمثابة تحول كبير فى الذات الإنسانية وإلى أى مدى تنشأ أماكن خاصة أو مدارس لتنشئة وتربية جيل يختار فراق الحياة بإرادته، يتعلم جميع مهارات الحياة ليرحل عن الدنيا! المسألة ليست لغزا، ولكن فى الفيلم الأمريكى الإنجليزى «لا تتخلَّ عنى» أنت أمام جيل يتربى فى مدرسة حتى عندما ينضج ويصل لسن الشباب يقوم بالتبرع بكل أجزاء جسمه الصالحة من أجل آخرين.. كبد، قلب، كلى.. أى شىء تتخيله. فى بادئ الأمر.. اعتقدت أن هذا خيال علمى من الأفلام إياها، لكن فى نهايته جال بخاطرى سؤال: ماذا لو كانت هذه المدرسة حقيقية؟ وهل حقا يوجد شىء مثل ذلك، واقعية الصورة والأداء المبهر وإنسانية اللغة السينمائية جعلتنى أعتقد أن هذا واقع وأصدق بعد أن قبض الفيلم علىّ وغاص بى إلى عالم لا أعرف هل أقبله أم أرفضه؟. والحكاية المأخوذة عن رواية معاصرة بنفس الاسم لكازو ايتشيجورو تدور أحداثها الأولى فى مدرسة تبدو كلاسيكية وجيهة اسمها «هيشلام» هى مدرسة داخلية إنجليزية معزولة وهادئة، واجهتها رائعة، تضم مجموعة من التلاميذ الصغار الذين أشار إليهم الفيلم بأنهم ضحايا من نوع خاص، أو أطفال شوارع، ناظرة المدرسة «شارلوت رامبلينج» وضعت نظاما لا يسمح فيه للتلاميذ بالتواصل مع العالم الخارجى.. حتى إنها تقوم بعمل مسابقات ومعارض فيما بينهم لتعرف قدرتهم على تحقيق الهدف الذى تسير من أجله وهو التبرع للآخرين، فى ظل هذه المرحلة نرى صديقتين كاثى (كارى موليجن) وروث (كيارا ناتلى) وبينهما تومى الخجول الذى يقع فى علاقة مع كاثى وفى النهاية يحب روث، لكن الجميع فى واقع الأمر لا يستطيع الفرار من القدر المحتوم، فعندما يشعرون بالحب وبقيمة الحياة وأن من حقهم أن يعيشوا، يقف الماضى بكل نظامه ومآساته أمامهم ويستسلم الجميع فى أداء تمثيل رائع وصادق لهذا القدر الذى يؤدى فى النهاية إلى رحيل اثنين توم وكارى وتبقى روث لتواجه نفس المصير.. الله أعلم. المخرج مارك رومانيك اختار لهذا العالم أسوأ الاحتمالات، وضغط بهدوء على المشاهد ليشعره بأن ما يشاهده هو واقع حى فعلا.. مدرسة أولاد.. تعلمهم وتثقفهم.. وتنمى مواهبهم وتؤهلهم نفسيا بأنهم خلقوا من أجل مساعدة الآخرين.. من أجل ألا يتألم الآخرون.. يختارون الموت من أجل حياة الآخرين إنه حقا خيال بلا قلب.. عالم بلا عقل، عالم مجنون. «ما الذى نرتكبه بحق كوكبنا؟» سؤال استنكارى مدهش يعيد طرحه مهرجان أبوظبى السينمائى وما أدهشنى حقا أنه عنوان لقسم خاص ضمن نشاط المهرجان يعرض مجموعة من الأفلام التى تقف بصدق عند مناطق الألم والإحباط التى أصابت العالم بفعل فاعل فإنسان هذا العصر فى إطار بحثه وشغفه وتطلعاته لحياة تتغلب على الواقع التقليدى بلا حدود، ضغط دون أن يدرى على زر انهيار قيم وسلوك وقواعد ومشاعر إنسانية وهذه الأفلام تحاول أن تضع يدها على الجرح حتى يتألم الإنسان لعله يفيق. الفكرة التى تبناها مهرجان أبوظبى تستحق الوقفة والتأمل وستصيبك بإحباط بعض الشىء نظرا لواقعية أفكارها الصادمة وانغماس مخرجيها مع الفكر والعلم والسلوك والتكنولوجيا غير الحميدة من هذه الأفلام الفيلم السويدى «إخضاع» للمخرج ستيفان يارل وفيه يؤكد أننا غارقون فى بيئة سامة من صنع أيدينا لتدخل أجسادنا ويحذر من أن هذه السموم الكيماوية تؤثر على عملية التكاثر البشرى ويطرح فى فيلمه السؤال الصعب: ماذا لو لم يبق أحد منا ليعيش فى هذا العالم الذى نتلاعب بمقدراته. وهناك فيلم أرض خراب للبرازيلية لوسى ووكر وهنا الرؤية التوثيقية حول الفنان البرازيلى الشهير مونيز حين يتعامل مع فنانين آخرين عبر استلهام مواد وطرق ربما تترك تأثيرا سلبيا على وعيهم. إنها باختصار غيبوبة تحت مسمى الإبداع. أيضا تخترق السينما قضية الأطعمة العضوية والجدل المثار حولها حيث يشير إلى إمكانية خطورة الاستخدام للأسمدة الكيماوية بإفراط فى الإنتاج الغذائى وأنه سيضر بأجسامنا كثيرا ويستعرض الفيلم المزارع العضوية الحديثة ويدعو إلى العودة للطرق والأساليب التقليدية فى الزراعة. هذه النوعية من الأفلام تنظر بعين الشفقة للمجتمع الذى بات يأكل نفسه بنفسه. انها تجارب جريئة وملهمة للحياة أو ما تبقى منها.