لا يتحدث عم شحاتة إلا عن الصيف القائظ والشتاء الحار، وعن موسم الطماطم العجيب هذا العام. يزرع شحاتة بعض الخضر كالسبانخ والطماطم والخس فى أرض مساحتها ربع فدان بصفط اللبن، ويؤكد أن مناخ هذا العام أتى على أغلب محصوله وقتل الأزهار قبل أن تثمر. يقف شحاتة داخل حديقة مركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة، حيث يذهب هناك للعمل أحيانا وتلقى النصيحة أحيانا أخرى. يطوف على الأحواض التسعة بالحديقة المخصصة للأغراض البحثية، ويستعرض آثار الحر الشديد عليها. يشير إلى الثمار على قمم أشجار الموالح وقد اختلط فيها اللون الأخضر بالأصفر، «الليمون فسد من حرارة الشمس»، ويكمل جولته مشيرا إلى أشجار البباظ والكمثرى وغيرها من أشجار الفاكهة التى أتت الشمس على أغلب محصولها، «إحنا دلوقتى فى شهر سبتمبر، لكن الدنيا حر كأننا فى بؤونة»، يقولها شحاتة فى إشارة إلى أن الشتاء قد صار أشبه بشهر يوليو الحار. فاكهة فى الفرن «الحرارة المرتفعة هى السبب الرئيسى لاشتعال أسعار الفاكهة والخضر هذا العام»، والحديث للدكتور سلامة عيد، مدير معهد بحوث البساتين التابع لوزارة الزراعة. يقول سلامة إن ارتفاع أسعار الفاكهة والخضر قد يحددها مدخلات مختلفة، مثل منافسات واحتكارات التجار، أو أسعار العمالة الزراعية والمبيدات والتقاوى وغيرها، «لكن هذا العام فالفاكهة المنتجة فى السوق هى نصف المتوافر العام الماضى تقريبا»، مما أدى لارتفاع الأسعار بصورة ضخمة نتيجة لنقص المعروض وزيادة الطلب. المانجو ارتفع ثمنه من 10 جنيهات إلى 15 جنيها للكيلو، والعنب من 4 إلى 7 جنيهات والبرقوق من 16 إلى 22 جنيها، طبقا لتجار التجزئة فى مناطق مختلفة، «والمشمش اللى كان بيتباع على عربات الباعة الجائلين بجنيه ونصف فى 2009، كان يباع هذا العام بأربعة جنيهات لتجار الجملة»، يقولها الدكتور سلامة متعجبا. يقوم معهد البساتين سنويا بجمع عينات من المزارع المختلفة بكل محافظة من محافظات مصر، فمثلا يتولى عد ثمار البرتقال من 3 مزارع مختلفة الإنتاجية من كل محافظة فى مصر كى يخرج بمتوسط محصول البرتقال للمحافظة فى كل عام، وبجمع هذه الأرقام سنويا يمكن حساب المتوسط السنوى لمصر كلها. إحصائيات المركز لهذا العام كشفت الحقيقة المخيفة، أن إنتاجية بساتين الفاكهة فى مصر قد انخفضت إنتاجيتها بمعدل 70 % تقريبا، مما أدى لارتفاع الأسعار بما يقارب 300%. «أكثر المحاصيل تأثرا كانت الحلويات»، ويقصد بهذه الكلمة فواكه الخوخ والكمثرى والتفاح التى انخفضت كمية المعروض منها هذا العام 50 %، وقلَّت كمية العنب بنسبة 25 % تقريبا، والكاكا إلى نحو 40 %. الشتاء الدافئ «نمو النباتات وأشجار الفاكهة يحتاج لفترات محسوبة من الحرارة والجو المعتدل»، يشرح د.محمد سامى المليجى، رئيس قسم أبحاث الفاكهة بمعهد بحوث البساتين، كيف أثر مناخ 2010 على الفاكهة. الفترة التى تنمو فيها زهور نباتات الموالح، كالبرتقال واليوسفى، والمانجو وغيرها هى شهرا مارس وأبريل، «وفى مارس زادت درجة الحرارة إلى 35 درجة مئوية رغم أن الطبيعى ألا تزيد حرارة هذه الأشهر على 27». وزادت درجة الحرارة فى أبريل إلى 38 درجة مئوية، وهى فترة بداية تحول الأزهار إلى ثمار صغيرة، «والحرارة العالية زادت من معدل النتح، المياه المتبخرة، فسقطت الثمار الباقية لتزيد نسبة الخسائر فى المحصول». بعض الخضراوات، مثل الطماطم، لا تنجح فيها عملية الإخصاب بين ذكور وإناث الأزهار إن زادت الحرارة على 35 درجة مئوية، وكانت درجات الحرارة الأربعينية لهذا العام كفيلة بتدمير محاصيل كاملة من الطماطم وإعجازها عن التكاثر. بعض الخضراوات الأكثر تحملا للحرارة، مثل الكوسة، قد قلت نسبة الإثمار فيها أو خرجت محاصيلها مشوهة. «ما حدث فى مصر حدث فى العالم كله» والحديث للدكتور السيد نادر البنا، وكيل معهد بحوث البساتين للإنتاج، مشيرا إلى أن روسيا قد أصيبت هذا العام بأسوأ موجة جفاف من 130 عاما، مما أجبرها على التنصل عن التزاماتها بتصدير القمح، فى حين أدى ارتفاع درجات الحرارة إلى قتل آلاف رءوس الماشية فى ولاية كنساس بالولايات المتحدة. الحل لمواجهة هذه الموجات الحارة هو تهجين أصناف جديدة من الخضراوات والفاكهة أكثر قدرة على مواجهة الظروف البيئية الصعبة، طبقا للدكتور البنا. هدف عملية التهجين هو البحث عن ثمار الخضراوات التى استطاعت أن تصمد أمام الموجات الحارة وتنمو بشكل صحى، ثم محاولة تلقيحها بغيرها من الثمار للوصول إلى أجيال جديدة قادرة على النمو بشكل طبيعى رغم قسوة الطبيعة والحرارة، وهو ما يؤكده د. البنا أن المعهد يقوم بأبحاث متطورة فى هذا المجال الآن. ويضيف الدكتور المليجى أن اهتمام المزارعين بمتابعة النشرة الجوية قد صار ضرورة أكثر من أى وقت مضى، «بساتين الفاكهة يتم ريّها كل 14 يوما، لكن الفلاح المفروض أول ما يسمع عن موجة حارة قادمة يروى الأرض بصرف النظر عن الميعاد» . المستقبل الغامض يتفق علماء معهد البساتين كلهم على أن ما حدث فى 2010 هو مقدمة لما سيحدث غدا، وأن «تغير المناخ العالمى» ظاهرة يجب الاستعداد لمواجهتها الآن. يقول الدكتور سلامة، مدير المركز، إن فكرة تغير المناخ العالمى بسبب التلوث البيئى والأنشطة الإنسانية الصناعية غير المبالية بأثرها على المناخ الجوى كانت محل جدل منذ سنوات، «لكن اليوم هى حقيقة من الصعب إنكارها، فنحن بدأنا نعانى آثارها الواقعية الواضحة للعيان». قد يختلف العلماء حول معنى وأثر التغير المناخى، ما بين المؤكدين على أن مصر ستشهد فيضانات تدمر الدلتا وتدفن الإسكندرية، وبين القائلين أن مثل هذه المخاطر ما زالت بعيدة جدا، وأننا يجب أن نقلق فقط على كيفية مواجهة ارتفاع درجة الحرارة وأثره على عمليات الزراعة المختلفة. من هنا تأتى أهمية مراقبة المناخ والقدرة على التنبؤ بالموجات الحارة، فى رأى سلامة، والاتصال السريع بين متخصصى المناخ ومتخصصى الزراعة. «مافيش حاجة اسمها تغيرات عالمية فى المناخ أصلا، وده كلام خالى من الصحة»، فى رأى وحيد سعودى مدير مركز التحاليل الرئيسية بهيئة الأرصاد الجوية. يستند وحيد إلى أن إحصائيات المنظمة العالمية للأرصاد الجوية فى جنيف قد أكدت أن زيادة درجة حرارة الغلاف الجوى على مدار القرن الماضى كله لم تزد على ستة أعشار درجة مئوية. منحها المصريون لقب المجنونة منذ أعوام كثيرة، لكنها لا تكترث، فهى تواصل التلاعب بالعاقلين كل موسم. الطماطم التى يدور سعر الكيلو منها هذه الأيام هو 10جنيهات محصول صعب، يوم فى السماء، وأيام كثيرة لا يسمع بها أحد. إسنا، أكبر مزرعة طماطم فى صعيد مصر، هى أيضا «بورصة» التسعير والصفقات التى تحدد قيمة وسعر «المجنونة» على مستوى البلاد. هذا التحقيق يرصد سيرة حياة ثمار الطماطم وهى تنتقل من موطنها الأصلى فى أقصى الصعيد إلى القاهرة وباقى الأقاليم