يتزايد عدد الروايات الصادرة بفرنسا من عام لآخر؛ وقد بلغ هذه السنة 701 رواية، ما بين نصوص لكتاب معروفين وآخرين ينشرون روايتهم الأولى. وبطبيعة الحال، ما يقرأ ويحظى بالنقد من هذا الكمّ الهائل لا يتجاوز نسبة الرّبع، بينما يظلّ عدد وفير من هذه الروايات مكدّسا فى المخازن أو يعاد طحن ورقه لاستقبال نصوص أخرى. وعندما ينشر «ويلبك» رواية جديدة يزداد الأمر تعقيدا لأنه يشكل منذ عقد من الزمن، حالة خاصة تجعله يستأثر باهتمام القراء والنقاد ووسائط الإعلام، فيتقلص حظ الروائيين الآخرين وبخاصة الجدد منهم. ولا بأس من الإشارة إلى أن لعبة التركيز على رواية أو ثلاث، كل سنة، هى عنصر أساس فى ميكانيزم الترويج للكتب وإسناد بعضها فى السباق نحو الجوائز الأدبية الخاضعة بدورها للعبة العلاقات، ونفوذ دُورِ النشر ومقاييس النقد الموجهة للحقل الأدبى.. ومنذ شهر، لا حديث فى فرنسا إلا عن رواية ويلبك الجديدة «الخريطة والبلاد» التى تحتفظ بالعناصر الجوهرية فى رؤيته إلى العالم، مع تنويع فى الشك، حيث أدخل شخصيات موجودة فى عالم الأدب والتلفزيون، إلى جانب توظيف اسمه باعتباره شخصية روائية تضطلع بدور وتتعرض للقتل هى والكلب المرافق لها. وهو بهذا الصنيع يضيف إلى واقعيته المهتمة بوصف الأشياء والحركة وتسجيل الكلام، بعدا فانتستيكيا يمتح من التخييل الذاتى ومن التأملات الساخرة. ونحن هنا لا نتوخى عرض رواية ويلبك الأخيرة ومناقشتها، بل نقصد إلى التوقف عند الخصائص والسمات التى جعلت منه ظاهرة مثيرة للنقاش والجدال، يتسع صداها إلى خارج فرنسا. فبعد استنفاد اتجاه «الرواية الجديدة» لقوته التأثيرية وجاذبيته الشكلية عبر تنويعات المحسوبين على هذا الاتجاه (جرييه، نتالى ساروت، كلود سيمون).. أخذت الرواية الفرنسية تراوح بين الصوغ التاريخى واستيحاء الذات ومحكياتها السيرية، مستجيبة لأفق انتظار قراء يتطلعون إلى رواية تقدم المتعة و«تلقن» فى عجالة، أمشاجا من تاريخ الملوك والأمراء ومؤامرات البلاطات وحروب أوروبا منذ العصور الوسطى.. واكتسبت رواية الأنا ومشتقاتها مكانة مرموقة ما انفكت تتعزز إلى أن تحولت إلى «تخييل ذاتى» يلقى بالذات الكاتبة فى مواقف ومشاهد تمليها الرغبة والاستيهام، وتؤثثها لغاتُ اللا وعى والذاكرة المنسية. إلا أن هذا الاتجاه فى الكتابة الروائية، على رغم إمكاناته وجاذبيته، يظل نجاحه مرهونا بمدى موهبة وثقافة الروائى وقدرته على تحويل الخاص إلى فسحة لتشخيص العامّ المشترك فى تجارب الحياة. من ثمّ فإن بعض الأقلام التى تألقت عبر رواية التخييل الذاتى سرعان ما وجدت نفسها سجينة التكرار أو السقوط فى نقل قصص «ما تحت السُّرّة»، بحسب التعبير الفرنسى. وأحسن نموذج لذلك هو تجربة الكاتبة «كرستين أنكو». فى هذا السياق، ومنذ تسعينيات القرن الماضى، أخذت روايات ويلبك تلفت الأنظار وتمتلك آلاف القراء بسبب عدة خصائص تطبع الشكل والتيمات وأيضا مزاج الكاتب ونوعية حياته. ولعل أول عنصر وراء نجاح هذا الروائى هو أنه يعود إلى «الواقع» الفرنسى الراهن، من منطلق تصوير العالم الخارجى كما يتبدّى وبحيادية مفرطة تضفى على الكتابة برودة لا تخلو من سخرية، خاصة عندما ينساق النص إلى تصوّر ما سيكون عليه هذا العالم المغرق فى اقتصاد الرأسمالية والعولمة الاستهلاكية. يضع ويلبك سارديه وشخوصه داخل العالم أولا، أى أن مادة الحكى والعلائق والأحداث جميعها مستقاة من المرئى والمقروء والمحسوس، أى من تلك الموادّ الخام التى يعايِشها الفرنسى داخل مجتمعه أو فى امتداداته نحو الخارج (العطل، السياحة الجنسية فى تايلاند والفلبين ،السلع المستوردة..). وهذا الاهتمام بالعالم الخارجى واستلاباته، لا يتم بمعزل عن ذات الكاتب وذوات شخصياته التى تحمل، فى جلدها، عواقب العيش فى عالم مطبوع بالضوضاء والسرعة والخوف من المستقبل. بعبارة ثانية، المتحدثون فى روايات ويلبك كأنما استفاقوا من نوم أو غفلة، ليجدوا أنفسهم وسط عالم لا يمتون إليه بصلة، ومع ذلك يحاولون استقراءه وإعادة تملكه مغالبين خوفهم وقرفهم وغربتهم.. وأظن أن هذه المزاوجة بين تشخيص العالم الخارجى وانعكاساته على سلوك ونفسيات الشخصيات، هو ما جعل بعض النقاد فى فرنسا يذهبون إلى اعتبار ويلبك بمثابة بلزاك القرن الواحد والعشرين، مع فارق أن الأول يؤرخ روائيا لانحدار المجتمع الفرنسى واستلابه فى خضم العولمة الربحية، والثانى واكب التاريخ والمجتمع فى حالة صعود، والثورة الصناعية تعد بازدهار وتقدم. ويجمعهما بالأخص، تصوير اهتزاز القيم، والتساؤل عن مصير «الكوميديا الإنسانية». مهما يكن، فإن نجاح ويلبك وترتيب رواياته على رأس «الأكثر بيعا» ليس مجرد صنيع دعائى لأنه أثبت من خلال النصوص، ومنذ عشر سنوات على الأقل، أن زوّادته تحمل المزيد من الابتكار والجرأة فى مساءلة المجتمع الفرنسى الذى يمر من مرحلة صعبة، منذرة بكثير من الانفجارات. وفضلا عن كل ما ذكرناه آنفا، يمكن أن نضيف عنصر «القبول» الذى يحظى به فى وسائط الإعلام، خاصة المرئية، حيث إن سحنته الحزينة، وملامحه المُجللة بالاكتئاب، تجسد الصورة العامة للفرنسى اليوم، الذى يستعين بالمهدئات (خاصة الprozak الذى كان الرئيس شيراك يتناوله) ليستطيع أن يجابه توترات الأعصاب فى مجتمع التنافس والقلق اليومى. وحين يتكلم ويلبك فى التلفزيون فإنه لا يستعمل الألفاظ الجزلة والبلاغة الرنانة، وإنما يكتفى بأجوبة تأتى فى شكل تمتمة هامسة تؤكد ملامح شخصياته التى لم تعد تعرف طريقا إلى الارتواء الجنسى، وتتناول كل شىء فى علب جاهزة تضاعف العطش بدلا من أن تطفئه. لأجل كل ذلك، أظن أن لجنة جائزة «الكونكور» الفرنسية لن تستطيع، هذه السنة أن تقفز على اسم ميشيل ويلبك مثل ما فعلت فى السنوات الماضيات، لأن الجمهور والنقد أقرّا بتميزه وتفوقه على الروائيين الآخرين الذين لا يمتلكون موهبته وجرأته، ويعيدون كتابة نصوص ملساء لا تثير ولا تمتع على رغم انتسابها إلى عالم الرواية.