كاتب هذه السطور واحد من ملايين، بل من عشرات الملايين، الذين يعيشون مصريتهم ويتنفسونها بشكل يقرب من الفطرة، ويعيشون إسلامهم السمح ومسيحيتهم المحبة تحت شعار «الدين لله والوطن للجميع». يعرف بشكل واقعى، لا يقلل من واقعية أنه مشوب بالعاطفة الوطنية التى تزيده ثراء وإنسانية، أن المشهد المسيحى من أصدقاء وجيران ومعارف لا يمكن أن يغيب أو يُغَيَّب من حياة أى مسلم، وكذا المشهد المسلم فى حياة كل مسيحى على أرض هذا الوطن. يحب من كل قلبه مقولة إن القبطية تعنى المصرية، وتنسحب على الجميع بصرف النظر عن ديانتهم. ورغم احترامه للدراسات التى تدقق فى هذا الأمر، يعترف بأن حبه ينبع من ولعه بكل ما يجمعنا وتندره من كل ما يفرقنا، ويرجو ألا يلومه أحد على ذلك. لكنه كقبطى مسلم، شديد التمسك بمصريته وبإسلامه الذى يدعوه إلى حب وطنه ومواطنيه، يعتصره الحزن بسبب بعض الظواهر، التى تنبع من التجاوز المتعمد وغير المتعمد لمفاهيم وقيم وأخلاقيات الحوار الصحى، الذى يعانى فى مجتمعنا من إشكاليات لم نبذل الجهد الكافى لفهمها ومعالجتها. وإذ أستسمح القارئ فى عرض اجتهادى المتواضع الخاص بإشكاليات الحوار، أؤكد أن هذا الاجتهاد أبعد ما يكون عن «رد الفعل» نتيجة الملابسات الأخيرة، حيث سبق طرحه كخطوط عريضة فى حلقة نقاشية عن «مستقبل الحوار» فى منتدى حوار الثقافات بالهيئة القبطية الإنجيلية منذ مدة طويلة، وبحضور عشرات المثقفين من شركاء الحوار. وكما أود دائما، فإننى أعرض هنا على قارئ «الشروق» للنقد أو النقض. وبناء على الاجتهاد المذكور، يمكننا رصد خمس إشكاليات رئيسية يمكن أن توصف عموما بكونها «منفصلة متصلة»، وتتعلق فى مجملها بآليات ومرجعيات ومناخ الحوار. أولى هذه الإشكاليات تتمثل فى الفشل فى الانتقال من حوار «الدوائر المغلقة» إلى موجة حوارية مجتمعة شاملة، تتفتح وتلتئم فيها كل الدوائر. وقد يظن البعض أن الأمر يقتصر على الدوائر المغلقة ذات المرجعية الدينية. لكن هذا الظن غير واقعى، حيث يشمل التناقضات السياسية والاقتصادية وجميع التناقضات الثقافية الاجتماعية (حركات المطالبة بالتغيير، الموقف من الفساد، النظرة إلى رجال الأعمال، المطالب الفئوية، الموقف من حرية التفكير والإبداع.. إلخ)، وإن كنا لا ننكر ما للقضايا الدينية من حساسية والقابلية للأفعال وردود الأفعال المتطرفة. وعموما، عندما يعلو صوت الدوائر المغلقة وتزداد حدة خطابها يستحيل الحوار الصحى، ويعيد الأمر تراشقه «فوق وتحت الحزام»، كما يقال. ورغم أننا نرى الحل فى حوار وطنى تتفتح فيه كل الدوائر بإخلاص وشفافية، وتتحول إلى موجة حوارية عامة تكتسب من خلال ممارستها المزيد من ثقافة وأخلاقيات الحوار، فإننا لا يمكن أن نضع رءوسنا فى الرمال انتظارا لحدوث ذلك. ففى المدى القصير علينا أن نتصدى «لكل لسان يتحول إلى ثعبان»، ويخرج من دائرته المغلقة لينفث السم فى جسد الوطن. وهذا ينقلنا إلى الإشكالية الثانية، التى تتعلق بالسؤال من هوية المتحاورين. إن الإشكالية الثانية تتلخص فى كلمات ثلاث: «خلل الهوية الحوارية»، إن وطننا، ككل وطن، متميز بالتنوع فى إطار الوحدة، تنوع دينى (مسلمون ومسيحيون) ونوعى (ذكور وإناث) وعمرى (شبان وشيوخ، ولا ننسى الأطفال!!) واقتصادى وسياسى ومهنى وثقافى بشكل عام، وما شئت من أشكال التنوع، وعندما يتحاور كل هؤلاء حول مستقبل وطنهم فإن الهوية التى تجمعهم هى «المصرية»، دون أى إخلال أو إقلال من أهمية دوائر الانتماء الأخرى. هل هذا ما يحدث فعلا فى كل ما نشهده من حوارات، رغم شكى فى صحة تسميتها بذلك؟ لقد ذكرت أن الإشكالات الخمس «منفصلة متصلة»، وأظن أن فشل الدوائر المغلقة فى الإنتاج والتحول إلى موجة حوارية شاملة يؤدى إلى خلل الهوية الحوارية، وتراجع «المصرية»، واقتصار وجودها على الأغانى الموسمية! الإشكالية الثالثة تتمثل فى «التقنية الحوارية»، التى أعنى بها قيام كل طرف يقول ما يريح الطرف الآخر فى الحوار، دون أن يكون صادقا فيما يقوله، ولكن لتسيير الأحوال كيفما أتفق. هذه التقنية تضعف من مصداقية وشفافية الحوار، وتنجم من عدم امتلاك مهارات دبلوماسية الحوار، التى تمكننا من قول ما نريد بالصورة الملائمة للسياق، فى مناخ يسمح بحرية التفكير والتعبير دون تجاوز، أو انتهاز لظروف محلية أو إقليمية أو دولية لممارسة هذا التجاوز. إن «التقنية الحوارية» خطأ، و«الانتهازية الحوارية» خطأ أكبر. ولأن الحوار الصحى لا يستغنى عن الاستنارة، فإن عدم قدرة «خطاب التنوير» على الوصول إلى الناس، وإدخال مفاهيمه وقيمه والشعور بأهميته فى نسيجهم الثقافى، يمثل فى حد ذاته إشكالية حوارية بالغة الأهمية. إننا ننادى ليل نهار بتجديد الخطاب الدينى، ولا خلاف حول ذلك. ولكن آن الأوان أن ننادى بتجديد الخطاب التنموى وزيادة فاعليته، ودعوة أصحابه إلى الاحتفاء بصورة أكبر بالسياق الثقافى، الذى يمارسونه فيه. ولا حاجة إلى الاسترسال فى التوضيح، لأن اللبيب بالإشارة يفهم، وهم كذلك. أخيرا، لا يمكن أن نتجاهل «إشكالية الحوار تحت ضغط»، بل تحت كل أشكال الضغوط، اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية، داخلية وخارجية. لقد أوضح لنا العلم كيف تتمكن الكائنات الحية من كائنات دقيقة ونباتات وحيوانات، وكيف يمكنها الإنسان بالهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية، من مقاومة ضغوط الجفاف والمناخ والأوبئة، بحيث نستطيع البقاء وزيادة العطاء. وعلينا أن نجتهد فى إبداع طرق تمكن المجتمع المصرى، والإنسانى، من الحوار الصحى تحت هذه الضغوط، لأن صحة الحوار ونجاحه هما السبيل الوحيد للتخلص منها!