فى السابع من يوليو عام 2001 حاصر مئات من جنود الاحتلال الإسرائيلى مقر «مهرجان إسرائيل الثقافى السنوى» بالقدسالغربية خوفا من تنفيذ المستوطنين المتشددين تهديدهم باقتحام قاعة المسرح الخاصة بالمهرجان، ليس بسبب مشاركة قادة المقاومة الفلسطينية أو الزعيم الراحل ياسر عرفات، ولكن لأن الفاعليات ستتضمن حفلا يُعزف فيه موسيقى «ريتشارد فاجنر»، الذى عرف بقربه الشديد من إدلوف هيتلر. وفى تمام الساعة الثامنه مساء صعد الموسيقار الأرجنتينى الإسرائيلى الجنسية دانيال بارينبويم على خشبة المسرح بثقة، ليقود فرقته الموسيقية «أوركسترا برلين» أمام ما يزيد عن ثلاثة آلاف متفرج، وبدأ فى عزف أشهر مقطوعات «فاجنر» . عزف بارينبويم أثار جدلا واسعا فى إسرائيل، فى ذلك الوقت، حتى إن وزيرة الثقافة الإسرائيلية هددت بطرده وسحب جنسيته الإسرائيلية بعد ضغط شديد من وسائل الإعلام الذى اعتبرت عمله منافيا «للوطنية»، ولم تستطع حكومة تل أبيب إلغاء الحفل، حيث كان المهرجان تحت رعايتها. وعلى مدى أكثر من عقدين عرف بارينبويم فى إسرائيل بأنه مصدر للإحراج أمام المجتمع الدولى ، خاصة أنه لا يفوت مناسبة إلا انتقد فيها سياسة الاحتلال الإسرائيلى ضد الفلسطينيين. وفى المقابل لم يسلم بارينبويم من الاتهامات التى انهالت عليه من الجانب الفلسطينى والعربى، واستقبلت دعواته المتكررة لتحقيق السلام عن طريق فهم الآخر «بأنها بوابة خلفية للتطبيع مع إسرائيل». وظلت هذه الصورة مطبوعة فى أذهان العرب حتى عام 1999 عندما تبنى المفكر الفلسطينى الأمريكى الجنسية إدوار سعيد مشروع بارينبويم، لتشكيل أوركسترا من العرب واليهود المؤمنين بالسلام ونبذ العنف» جعل من القدس مقرا دائما له، وبالفعل تحقق الحلم ونجح سعيد وبارينبويم فى تكوين الفريق وضم جنسيات من كل من مصر وسوريا ولبنان والأردن وإسرائيل، وأطلق عليه أوركسترا «ديوان الغرب والشرق». إلا أن الطريق لم يكن ممهدا أمام المشروع، واستغرق الأمر أكثر من ست سنوات، كى تسمح إسرائيل بإقامة أول حفل لأوركسترا «ديوان الشرق والغرب» فى الأراضى المحتلة. وفى عام 2005 وسط تغطية إعلامية كبيرة أقيم أول حفل للأوركسترا بعد أن قامت إسبانيا بمنح كل أعضاء الفريق جواز سفر دبلوماسيا كى تسمح إسرائيل بدخولهم مدينة القدس التى تتطلب تأشيرة دولة إسرائيل. مريم سعيد زوجة المفكر الفلسطينى الراحل إدوار سعيد تحدثت ل«لشروق» عن تجربة أوركسترا «ديوان الشرق والغرب» الذى شاركت فى تأسيسه ، وقالت: إن ظروف كل من بارينبويم وسعيد كانت السبب فى صداقتهما القوية ... « إدوار فلسطينى عاش معظم حياته خارج فلسطين، و بارينبويم إسرائيلى الجنسية عاش معظم حياته خارج إسرائيل، وهذا ما جعلهما يفكران فى مشروع يخدم الشعب الفلسطينى ويهدف لبناء فهم مشترك من الجانبين لواقع القضية يتخطى حواجز الاختلافات الفردية . وتضيف: وجدا ميدان الثقافة ميدانا خصبا للتعايش والفهم، وبدأت الفكرة بورشة عمل صغيرة تجمع فلسطينيين من الضفة وغزة مع إسرائيليين، وتطور بعد ذلك المشروع إلى أن وصل إلى أوركسترا «ديوان الشرق والغرب». ومع مرور الوقت أعطى إدوار سعيد اهتماما خاصا للمشروع والسبب وفق رواية مريم سعيد ، إدراك زوجها أن هناك رسالة على العالم أن يستوعبها مفادها «أنه عاجلا أو آجلا سيعيش الشعبان الفلسطينى و الإسرائيلى جنبا إلى جنب ، ولابد أن يستعدا لهذه اللحظة بأن يفهم كل منهما الآخر بعيدا عن آلة الإعلام. وتضيف : من هنا وجد إدوار أن فكرة الأوركسترا قد تقود إلى مشروعات أكبر، خاصة أن الموسيقى لغة يفهمها كل البشر وليس لها علاقة بالسياسية، كما أن التطبيع شىء مختلف تماما. ولكن البعض يرى أن فكرة المشروع ليست واقعية فى ظل وصول العملية السياسية إلى طريق مسدود؟ تجيب مريم سعيد، بتأكيد اختلافها مع هذه الفكرة، خاصة أن فكرة المشروع تقوم فى الأساس على دعم الأجيال الفلسطينية القادمة المهتمة بالأوبرا، وبعث الأمل والحماس فى قلوبهم، بعد أن حُرم الفلسطينيون من العزف فى أوبرا خاصة بهم بسبب الحصار والعزله المفروضة عليهم من قبل الاحتلال الإسرائيلى.