ارتفعت درجة الحرارة فى روسيا بفعل تغيرات مناخية عالمية.. هذا الارتفاع وصل إلى مستويات قياسية متحالفا مع إهمال حكومى فادح أدى إلى اشتعال النيران فى الغابات والحقول، والنتيجة ما يشبه الكارثة فى الإنتاج الروسى من الحاصلات الزراعية خصوصا الحبوب. أحد أعراض الأزمة وقف روسيا لصفقاتها التصديرية من القمح للخارج، مؤقتا، ومن بين هذا الخارج تضررت مصر، التى تستورد سنويا نحو 7 ملايين طن مما يجعلها المستورد الأول عالميا. ولأن «مصائب قوم عند قوم فوائد»، فقد سارعت أمريكا إلى محاولة الاستفادة من المأساة الروسية كى تعود إلى السوق المصرية مرة ثانية، لكن يبدو أن الأحلام الأمريكية لن تتحقق بسهولة. فى الأسبوع الماضى شهدنا ما يشبه حرب الرسائل المبطنة بين مصر وأمريكا بشأن القمح. السفيرة الأمريكية فى القاهرة مارجريت سكوبى التقت وزير الزراعة أمين أباظة ظهر الاثنين الماضى للاتفاق على تصدير 150 طن تقاوى قمح مصرى مقاوم للصدأ إلى أفغانستان. السفيرة استغلت اللقاء وأعلنت أن بلادها مستعدة لتغطية العجز فى صفقات القمح. الإعلان جاء وكأن واشنطن تريد أن تقول إنها المنقذ، لكن المهندس رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة فهم الرسالة، وأعلن فى اليوم التالى أن مصر لن تشترى القمح عبر الاتفاقيات الخاصة، و«من يرد توريد القمح لنا فعليه أن ينضم للمناقصة، ويقدم سعره، ونحن نختار الأفضل». «الرسائل» بين السفيرة والوزير ليست جديدة، و«الحرب» بدأت العام الماضى، حينما أصر الوزير على تطبيق الشركات الأمريكية للمواصفات المصرية. سعر طن القمح الأمريكى كان يزيد على نظيره الفرنسى بنحو 25 دولارا وتزيد تكلفة شحنه على نظيره الروسى بنحو 40 دولارا على أساس التسليم على ظهر السفينة، كما أن الجانب الأمريكى كان يريد دائما أن نتسلم «البضاعة» بطريقة «تسليم المفتاح»، أى أن كل ما يرسلونه لنا نأخذه، دون أن يكون لنا الحق فى فحصه كاملا والتأكد من أنه سليم ومطابق للمواصفات المصرية وليست الأمريكية. الأمريكان رفضوا، وانتهى الأمر تقريبا بمعظم الموردين الأمريكيين إلى عدم التقدم نهائيا بعروضهم فى المناقصات المصرية. والنتيجة انخفاض شحنات القمح الأمريكية بنسبة 70٪ تقريبا. الرسالة التى فهمتها أمريكا، أن مبيعاتها من القمح لمصر لن تعود إلى سابق عهدها إلا إذا رفع المنافسون والمصدرون الآخرون لافتة «لقد نفد مخزوننا من القمح». هذا الشعار بالضبط يبدو أنه كان يدور فى عقل سكوبى عندما وقفت مزهوة لتعلن أن بلادها مستعدة كى تلعب دور المنقذ.جزئيا، ومن حسن الحظ فإن المأساة الروسية لم تمتد آثارها كثيرا إلى السوق العالمية للقمح حتى الآن، رغم أنها أدت إلى ارتفاع أسعاره إلى أكثر من 320 دولارا للطن بعد أن كان قبل شهرين بنحو 160 دولارا فقط. على الذين راهنوا على نظرية أن شراء القمح واستيراده أفضل كثيرا من زراعته أن يراجعوا أنفسهم ويستوعبوا مغزى الدرس الروسى و«التلمظ» الأمريكى لالتهام سوق القمح المصرى، هذه النظرية خصوصا فى ظل التغيرات المناخية غير المتوقعة قد تقود لكارثة غذائية، وقد يصل سعر «كيلة» القمح ليصبح أعلى كثيرا من سعر برميل البترول. الواقع يقول إن أمريكا تنهزم فى أفغانستان، وقبل أن نبحث معها زراعة قمح مصرى فى أفغانستان، علينا أن نفكر فى طريقة لزراعته فى أراضينا حتى لا نجد أنفسنا بين مطرقة الظروف الجوية الروسية وسندان الرغبة الأمريكية فى الانتقام.