يواكب انسحاب القوات الأمريكية فى 31 أغسطس شهر الصوم والصلاة عند المسلمين، وهو توقيت يلائم السياسة الأمريكية أكثر من ملاءمته للأوضاع فى العراق. وعادة ما يشهد شهر رمضان تصاعدا للعنف مع اقتران الحماسة الدينية بارتفاع حرارة الجو والجوع. غير أن إرجاء الانسحاب لمدة عام آخر قد يعنى أن تتجاوز مدة الحرب العراقية حرب فيتنام فى طول مدتها. وربما كان من الممكن أن يكون هناك توقيت أفضل بالنسبة للعراق، لكن الانسحاب تأخر بالنسبة للولايات المتحدة. ولأن التدخل العسكرى فى العراق لم يكن له ما يبرره فى المقام الأول سواء من الناحية القانونية أو الاستراتيجية أو الدفاعية فقد حان الوقت لإنهائه. فقد غرست الولاياتالمتحدة قواتها فى المشهد، مما تطلب مبالغ ضخمة من أموال دافعى الضرائب للحفاظ على وجودها. وهى تبرر إدمانها للعراق بادعاء أن جنودها وحدهم يمكنهم منع العراقيين من قتل بعضهم البعض والحيلولة دون انهيار الحكومة العراقية. ومن جانبهم، يعتمد العديد من الساسة العراقيين بشكل مكثف على العسكرية الأمريكية، حتى وهم يطالبون بإنهاء الاحتلال من أجل كسب نقاط على حساب خصومهم. وهى علاقة اعتمادية غير صحية، وسوف يكون الانسحاب انسحابا بكل معانى الكلمة، ومن المحتمل أن يسبب المزيد من الضرر إن لم ينفذ على نحو مسئول. فى فوضى... تبدو صورة المشهد السياسى العراقى سيئة، ومن المتوقع أن تزداد سوءا، غير أنه لا يوجد ما يمكن أن يؤديه أو يجب أن يؤديه الجيش الأمريكى للحيلولة دون ذلك. ويرى البعض ضرورة تمديد الوجود العسكرى، لافتا النظر إلى حوادث القتل الطائفى المتجددة، والعنف بين العرب والأكراد، وعدم كفاءة قوات الأمن العراقية، باعتبارها مبررات كى تعيد واشنطن بحث توقيع اتفاقية أمنية مع بغداد. وهناك مخاطر حقيقية من العنف وزعزعة الاستقرار، غير أن توريط القوات الأمريكية إلى ما لا نهاية لن يكون له تأثير تقريبا على الأسباب الكامنة، كما لا يجب أن يبرر تصاعد العنف المزيد من التورط فى العراق. بل على العكس، فإن استمرار الوجود العسكرى الأمريكى قد يمنع العراقيين من تولى هذه القضايا بأنفسهم، وهو الحل الوحيد طويل الأجل لمشكلات العراق، خاصة فيما يتعلق بالأمن الذى هو قضية داخلية أكثر منه قضية دولية. وبمجرد مغادرة القوات العسكرية الأمريكية، سوف يُحْرَم الشيعة أتباع مقتدى الصدر من شيطانهم المفضل، وسوف يفقدون أهميتهم، ما لم يستطيعوا تحويل طاقاتهم إلى حل أزمة الكهرباء فى البلاد وتحسين علاقاتها بجيرانها العرب. ومع تراجع عدد القواعد العسكرية الأمريكية، سوف يقل عدد أهداف القاعدة فى العراق، ومن المتوقع أن يتلاشى وجودها هناك. فحلفاؤها الطبيعيون قليلون للغاية على أى حال، حتى بين السكان العرب السنة. وقد فاز تحالف إياد علاوى «العراقية» بفارق ضئيل فى انتخابات السابع من مارس، غير أنه بدد كل فرصه عندما أخفق فى تشكيل ائتلاف مع أى من الأحزاب السياسية الكبرى الأخرى. كما أدت سفرياته المتكررة إلى بلدان الخليج السنية إلى زيادة ابتعاده عن السكان الشيعة. وبالمثل، بدد التحالف الوطنى الذى كان يهدف إلى توحيد ائتلاف دولة القانون مع الائتلاف الوطنى العراقى فرصه بإثارة القضية الأساسية حول من سيقود التحالف. ويتمسك نورى المالكى المفترض أنه زعيم قوى برئاسة الوزراء حتى والبلد ينهار من حوله، بسبب الافتقار إلى الزعامة. وتتزايد التهديدات بالقتل ضد قادة الأحزاب، وقد تم بالفعل اغتيال ثلاثة من المسئولين المنتخبين. وإذا تم تشكيل حكومة جديدة بحلول 31 أغسطس، ربما تستبعد واحدة على الأقل من الجماعات الديموجرافية: الأكراد، أو السنة، أو الشيعة. وكما فى 2005، ليست هناك رغبة فى تشكيل حكومة وحدة وطنية تضع جميع الأحزاب تحت مظلة واحدة، وتجبرهم على إجراء تسويات بشأن اجتثاث البعث وقضية كركوك، وهما قضيتان يمكن للعراقيين أن يقتِلوا أو يموتوا دونهما، لا أن يقدموا تنازلات بشأنهما. وإذا خرجت حكومة وحدة وطنية إلى الوجود، سوف يمضى اللاعبون الكارهون فترة السنوات الأربع فى المنصب، وهم يتشاجرون بدلا من أن يعالجوا القضايا الصعبة. وربما ينجم عن الوضع البديل وهو استبعاد حزب أو عدة أحزاب عنف متزايد، ولكنه قد يؤدى ايضا إلى قيام معارضة سليمة، قادرة على تحدى شرعية الحكومة عندما تتصرف على نحو غير مشروع. لتنسحِبوا ببطء. لن تقوم الولاياتالمتحدة بسحب قواتها مرة واحدة. فسوف تتبقى قوات دعم قوامها خمسة آلاف فرد و1300 مدنى ودبلوماسى، وسوف يكون من المناسب أن تركز على نشر الكهرباء فى البلاد ودعم الإصلاح الدستورى، وهى أمور يراها العراقيون أنفسهم أحجار عثرة فى وجه التطور الاقتصادى والسياسى. وليس هناك ما يحقق استقرار العراق أكثر من نشر الكهرباء فى البلاد، حيث ييسر نمو النشاط الاستثمارى وتوظيف أولئك الذين كانوا ربما سينضمون إلى الميليشيات من أجل إعالة أسرهم. وسوف تجذب الكهرباء الاستثمارات، وتتيح التوسع فى قطاعى البترول والغاز، وتزيد تبريد اللقاحات والطعام الطازج، وتفيد المدارس، بل إنها سمحت للمزيد من الناس بمتابعة مباريات كأس العالم لكرة القدم، وليست مصادفة أن معظم المظاهرات التى طالبت باستقالة وزير الكهرباء حدثت فى يونيو أثناء مباريات كرة القدم. ويوضح تأجيل تشكيل الحكومة فى 2005 وفى العام الحالى، الحاجة الماسة لإصلاح الدستور بالإضافة إلى بقية الهيكل القانونى. وكانت نتيجة الصياغة المبهمة والملتبسة للدستور الذى صيغ على عجل وتم التصديق عليه بالكاد فى 2005 أن ادعى كل من العراقية والتحالف الوطنى أحقيته بتشكيل الحكومة المقبلة. ومن دون القوانين والمحاكم والدستور لإيجاد حلول سياسية وقانونية، من المنطقى أن يختار العراقيون العنف باعتباره الوسيلة الأكثر فعالية لحل المشكلات. وبطريقة مسئولة.. غير أنه على الولاياتالمتحدة أن تنسحب على نحو مسئول. فسوف تكون هناك عواقب لرحيلنا بالنسبة للعديد من العراقيين. ومن شأن تجاهل مسئولياتنا، وفقا لتعبير براد شيرمان عضو الكونجرس: «أن يسمح بحدوث كارثة بالنسبة لحقوق الإنسان فى العراق لمجرد أننا ننفذ عملية الرحيل». وكان النائب شيرمان يشير إلى منظمة مجاهدى خلق، وهم نحو ثلاثة آلاف إيرانى راديكالى محتجزون فى معسكر الأشرف بالعراق، يعارضون الحكومة الإيرانية. ولا تُكِنُّ بغداد أى تعاطف لحركة مجاهدى خلق لأنها ساعدت صدام حسين فى قمع شيعة وأكراد العراق. وربما يسفر الانسحاب الأمريكى عن تأجيج المشاعر الساخطة الضارية، مع تطلع كل من العراق وإيران للانتقام. وقد شاركت حركة مجاهدى خلق أيضا فى الاستيلاء على السفارة الأمريكية فى طهران عام 1979، ومن ثم فأعضاؤها، باعتبارهم إرهابيين، غير مسموح بإعادة توطينهم فى الولاياتالمتحدة. ومع ذلك، فمعسكر الأشرف، يؤجل الأمر المحتوم وينذر بالتحول إلى خليج جوانتانامو آخر. وينبغى أن يقف أعضاء مجاهدى خلق الذين شاركوا فى أعمال إرهابية أمام العدالة، ربما من خلال محكمة تخصصها الأممالمتحدة لضمان محاكمة عادلة. ويتعين تأهيل أولئك الذين يتم تبرئتهم للحصول على إعادة التوطين. ولعل الأصعب من حال مجاهدى خلق هو موقف أعضاء الصحوة المقدر عددهم بنحو مائة ألف عضو، وهم المتمردون السنة الذين قاتلوا فى البداية ضد الأمريكيين فى أبريل 2003، ولكنهم تعاونوا معهم فيما بعد ضد القاعدة بداية من شهر أغسطس 2008. وتستهدف القاعدة أعضاء الصحوة بسبب خيانتهم لها، وتحتقرهم الميليشيات الشيعية بسبب العمل مع الأمريكيين، كما تحجم الحكومة الشيعية عن ضم هؤلاء المتمردين السابقين إلى قوات الشرطة أو الأمن. وعلى غرار مجاهدى خلق، فمتمردو الصحوة غير مؤهلين لإعادة التوطين فى الولاياتالمتحدة. ومع ذلك، فلولا مساعدة الصحوة لكانت هزيمة القوات الأمريكية مؤكدة. ونظرا لأننا وقعنا اتفاقا مع الصحوة، فعلينا أن نلتزم بواجباتنا وفقا له، وذلك بحماية بقية الأعضاء من أن تقتنصهم القاعدة أو ميليشيات الشيعة. وعلينا أن نساعد عائلات الصحوة على الانضمام إلى البرنامج الأمريكى للاجئين، ويجب ألا تطبق قيود التوطين على الزوجات والأطفال الأبرياء. حيث يعتمد قدر كبير من مصداقية أمريكا كشريك استراتيجى فى الخليج على الكيفية التى نعامل بها حلفاءنا العرب، ومن ضمنهم أعضاء الصحوة. ومع انسحاب القوات، سوف يفقد آلاف العراقيين وظائفهم كمترجمين ومساعدين. وبالإضافة إلى خسارة الدخل، سوف يواجهون التهديدات بالموت لأنهم عملوا مع الأمريكيين، ولم يعودوا يتمتعون بحماية القوات. فيجب أن يحصل أولئك الذين يرغبون فى الاستيطان بالولاياتالمتحدة بسرعة وبصورة فعالة على فرصة الالتحاق ببرنامج مساعدة اللاجئين. أما أولئك الذين لا يرغبون فى مغادرة العراق، فيجب بحث منحهم مكافآت سخية لنهاية الخدمة، مع الأخذ فى الاعتبار حاجتهم المتزايدة للأمان بعد رحيل القوات الأمريكية. وفى 31 أغسطس، ربما لا تكون هناك حكومة جديدة بعد فى وداع القوات الأمريكية، ناهيك عن تحمل مسئولية أمن البلاد. ولا شك أن الناس سوف يكونون فى معاناة من النقص الحاد فى الكهرباء، مع انعدام تكييف الهواء أو التبريد وسط أشد فترات العام حرارة. وستكون المياه النظيفة نادرة، والمحاصيل بسبيلها للجفاف. كما ستكون هناك صفوف طويلة غاضبة عند محطات الوقود، وتكدس للقمامة فى الشوارع، ومن حين لآخر تفجيرات تصحبها صرخات وصفارات إنذار. أى أنه بالأساس أغلب ما يتخيله الناس عن الجحيم. ولكن، علينا أن ننسحب.