لم يخسر الغرب تركيا حتى الآن فما حدث هو أن شروط التعامل تغيرت، ذلك أن تركيا لم تعد تلك الدولة المستجدية الذليلة، التى يتخيل الكثيرون فى الولاياتالمتحدة وأوروبا أنها ستظل كذلك للأبد. إنها تبدو بلدا آخر، وبفضل حيويتها الاقتصادية وثقتها فى نفسها من الناحية السياسية، فقد تجاوزت الدور الذى حدده لها الغرب. إن قصة تركيا هى قصة أمة تتجه بإرادتها نحو الشرق: تبتعد عن الديمقراطية الغربية لحساب الإسلام فى الداخل، وتتطلع شرقا لاستعادة زعامتها فى المناطق، التى كانت خاضعة فيما سبق للدولة العثمانية. فأنقرة، التى يزدريها الغرب، تصلح علاقتها مع جاراتها. وهى تستغل الفرص الاقتصادية والدبلوماسية لتأكيد مكانتها فى منطقتها. فالتمزق الذى أصاب العلاقات الودية مع إسرائيل، عقب مقتل مدنيين على يد جنود الكوماندوز الإسرائيليين على ظهر سفينة مسجلة فى تركيا تحمل مواد الإغاثة الإنسانية إلى غزة، إلى جانب تحدى أنقرة للغرب فى الأممالمتحدة بشأن مسألة إيران، يؤكد هذه الرواية. وما يمكن أن نستنتجه هو أن حكومة رجب طيب أردوغان الإسلامية لا تمانع (بل وربما تتعمد) فى التخلى عن دورها الأوروبى لمصلحة دورها فى الشرق الأوسط. هناك قدر من الحقيقة فى هذه الملاحظات. فمن المؤكد أن حزب العدالة والتنمية، الذى يتزعمه السيد أردوغان يشعر بالارتياح فى صحبة جيرانه الإقليميين. وقد حققت سياسته الخارجية «الخالية من المشاكل» مكانتها ونفوذها بالحد من خطر الصراعات. فقد زال خطر الحرب مع سوريا ليفسح الطريق أمام تنقل الأشخاص بين البلدين دون تأشيرة دخول، وحلّ التفاهم السياسى مع العراق محل التوتر. والتناقض بين وضع تركيا الإقليمى الجديد وازدراء أنقرة، الذى أظهره كل من الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لا تخطئه العين. والصدع الذى أصاب العلاقات الودية مع إسرائيل، الذى بدأ مع غزو إسرائيل لغزة العام الماضى، أمر سيكون من الصعب إصلاحه. والغضب الذى أثاره الهجوم الإسرائيلى على أسطول المساعدات، يعبر الحدود السياسية. وهذا هو الحادث الأول من نوعه منذ الحرب العالمية، الذى يُقتل فيه مواطنون أتراك على يد قوات مسلحة أجنبية، على حد ما قاله لى مسئول حكومى. وترى تركيا فى رفض إسرائيل تقديم أى اعتذار عما ارتكبته أمرا شائنا، شأنه شأن الحادث نفسه. غير أن المؤمنين بالشرعية السياسية العلمانية لمصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، قلقون من خطاب الحكومة الذى يتسم بالحدة. وهم يقولون إن الصدع الذى أصاب العلاقة مع إسرائيل له ظلاله الخطيرة. فهو علامة على تشدد إسلامى يمكن أن يوجه ضربة قاضية إلى تراث تركيا، إذا لم يعد النظر فيه. يتفق قرار الحكومة الخاص بمناصرة قضية الفلسطينيين فى غزة وتشجيع الحوار مع حماس مع الدبلوماسية الإقليمية النشطة لوزير الخارجية أحمد داود أوغلو. ويرى البعض أن نداءات السيد أوغلو العاطفية الموجهة للشارع العربى تثير ذكرى الخلافة العثمانية، وهو أمر لا يبعث الراحة. ويوجه روبرت جيتس، وزير الدفاع الأمريكى، اللوم إلى أوروبا. فالاتحاد الأوروبى يدفع بتركيا نحو الشرق بتلكئه فى البت فى عضوية أنقرة بالاتحاد. ولو كانت صلة تركيا بالغرب «عضوية»، لكانت أقل ميلا للنظر شرقا. والسيد جيتس محق فى أن الاتحاد الأوروبى عموما، وفرنسا وألمانيا على وجه الخصوص، فعلت كل ما تستطيع لرفض تطلعات تركيا إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى. وحتى أشد المتحمسين لليورو فى تركيا بدأ ينفد صبرهم. فقد مضى نصف قرن منذ قدمت تركيا طلب العضوية. لكن وزير الدفاع الأمريكى مخطئ فى القول بأن تركيا تواجه الاختيار بين اثنين لا ثالث لهما: فإما الشرق أو الغرب، كما أنه كان مجافيا الحقيقة تماما، فيما يفهم من حديثه، من أن معالجة واشنطن للعلاقة تحسن كثيرا مؤخرا. وإذا كان هناك من يتطلع للحظة تفاقم فيها الأمور، فليس هناك أفضل مثالا من طلب جورج بوش الحاسم بأن تكون تركيا بمثابة نقطة الانطلاق لغزو العراق.وعلى أى حال، فإن الرسالة التى وصلتنى من واضعى السياسات وقادة الأعمال خلال مؤتمر عقدته فى اسطنبول مؤخرا تشاتهم هاوس، كانت أكثر هدوءا من الخطاب الحالى السائد فى الغرب. فبدلا من إدارة توجه ظهرها للغرب، تأمل الحكومة فى أن يعزز نفوذ البلاد الإقليمى الصاعد طلبها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى. ومن غير الشائع هذه الأيام أن تسمع من يمتدح الاتحاد الأوروبى، إلا الساسة الأتراك. فقد قال أحد وزراء أردوغان أمام المؤتمر أن الاتحاد الأوروبى كان «أكبر مشروع للسلام فى تاريخ البشرية».. ويظل تحقيق عضوية تركيا هدفا قوميا واستراتيجيا. وحسبما قاله بعض الوزراء، فإن تركيا لم تعارض حتى العقوبات الجديدة التى فرضتها الأممالمتحدة على إيران حيث جاء التصويت عليها فى أعقاب مبادرة تركية برازيلية مجهضة، للوساطة من أجل التوصل إلى تسوية بشأن طموحات إيران النووية. وقد قوبلت المبادرة، التى كانت تتضمن نقل جزء من مخزون اليورانيوم الإيرانى إلى تركيا، بالرفض من جانب واشنطن بوصفها محاولة ساذجة على أفضل تقدير. واتُهمت أنقرة بالوقوع فى شرك إيرانى. ويقدم الوزراء الأتراك نسخة مختلفة نوعا ما للأحداث، فهم يصرون على أن شروط الاقتراح تتفق تماما مع تلك، التى تضمنها خطاب خاص أرسله الرئيس أوباما إلى أردوغان فى أبريل الماضى. ولم تقدَّم المبادرة قط بوصفها حلا شاملا، بل كإجراء لبناء الثقة يمكن أن يؤدى إلى محادثات أوسع نطاقا مع طهران. وبعيدا عن التفاصيل الدقيقة والجدول الزمنى، لم أسمع فى اسطنبول من يتحدث عن صداقة مع الغرب؛ فما خرجت به هو أن تركيا قررت، بعد 20 عاما من انتهاء الحرب الباردة، أن بإمكانها أحيانا وضع سياستها الخارجية. كما أصبح مفهومها للانتماء إلى الغرب، الذى كان يوما ما يعنى تنفيذ ما تقوله واشنطن، ماض لها. فتركيا الآن لها مصالحها، وآراؤها، وحقوقها الخاصة. يرى الكثير من الأمريكيين وبعض الأوروبيين أن هذا أمر شديد الإزعاج. فتركيا التى كانوا يتخيلونها كانت تدين لهم باستمرار، وتشعر بالامتنان لأى مقعد يقدم لها على الطاولة الغربية.المفارقة بالطبع هى أن تركيا الجديدة، الواثقة، لديها ما تقدمه للغرب أكثر من تركيا السابقة، المطيعة. وهى، بما تتمتع به من عقلية خاصة، تتمتع بمصداقية أكبر فى الشرق الأوسط والعالم الإسلامى. وهذه هى تركيا التى يجب ألا يفقدها الغرب بالفعل.