للديمقراطية ملامح إنسانية جميلة نغفلها كثيرا في نقاشاتنا حولها كالنموذج الأرقى الذي طورته البشرية لإدارة شئون مجتمعاتها. لم يفارقني هذا المعنى أثناء متابعتي لجنازة وحفل تأبين السيناتور الأمريكي الراحل إدوارد كنيدي ثم حين مطالعتي للعديد من مقالات الرأي وشهادات السياسيين والمشرعين الأمريكيين التي تناولت سجل الرجل المهني وحياته. أما الملمح الأول، التواصل والاحترام المتبادل بين رموز وقيادات المجتمع على تنوع مواقعها وعمق اختلافاتها، فأظهرته جنازة كنيدي بجلاء شديد. شارك في الجنازة الرئيس الحالي للولايات المتحدة باراك أوباما وثلاث من الرؤساء السابقين هم بترتيب الأحدث فالأقدم جورج بوش الابن، وهو ناب كذلك عن والده الرئيس جورج بوش الأب، وبيل كلينتون وجيمي كارتر. حضرها أيضا عدد كبير من المشرعين الأمريكيين الحاليين والسابقين من الحزبين الديمقراطي الذي انتمى له السيناتور كنيدي والجمهوري فضلا عن حشد من رموز المجتمع الأمريكي الثقافية والفنية والإعلامية. قارنوا أعزائي القراء بين هذا الملمح الذي يذكر مواطني الدول الديمقراطية بسلمية واستمرارية حياتهم السياسية وبين مشاهد وداع الحكام وسياسيي نخب الحكم في الدول غير الديمقراطية العربية منها وغير العربية. هل تجدون رؤساء سابقين بجوار الرئيس الحالي، بل هل ستلمحون رئيسا سابقا واحدا؟ هل ستعثرون على سياسيين من أحزاب وحركات المعارضة، إن وجدت، في الصفوف والمقاعد الأمامية بجوار ممثلي الحكومات؟ بالقطع لا. في دولنا غير الديمقراطية لا يجتمع رئيس حالي مع رئيس سابق إلا في حالة واحدة فقط وهي جد نادرة، الأول يسير خلف نعش الثاني أو يقوم بزيارة قصيرة لقبره في المناسبات والأعياد الوطنية. في دولنا غير الديمقراطية يندر أن تجتمع نخب الحكم والمعارضة لوداع شخصيات سياسية يتوافق الفريقان على اعتبارها رموز وقيادات وطنية، فالتنازع حول السياسة يمتد إلى شخوص فاعليها ويحول دون مشاركة جماعية حقيقية من الفريقين. والحصيلة هي دول ومجتمعات تفتقد للتواصل بين رموز الماضي والحاضر ويغيب التوافق عن قياداتها السياسية التي تبدو للمواطنين وكأنها تعيش في عوالم مقطوعة الصلة ببعضها البعض. الملمح الثاني الذي دلل عليه تعامل السياسة والمجتمع في الولاياتالمتحدة مع وفاة السيناتور كنيدي هو شيوع ثقافة التسامح في التعامل مع الخلاف السياسي مهما بلغت حدته. ذكر أوباما خلال جنازة كنيدي بتعاونه مع المشرعين الجمهوريين خلال سنواته الأربعين في مجلس الشيوخ الأمريكي وبسعيه المستمر للوصول إلى تشريعات وقوانين يقبلها الحزب الديمقراطي والجمهوري. أحد أبناء كنيدي تحدث عن تسامحه حين الحديث عن الجمهوريين وتشديده باستمرار على أنهم لا يقلون وطنية وحبا للولايات المتحدة عن الديمقراطيين. العديد من المشرعين الجمهوريين الذين تناولوا في مقالات رأي وتعليقات إعلامية سجل السيناتور الراحل المهني ثمنوا وطنيته وتسامحه في إدارة الخلاف السياسي معهم داخل الكونجرس وخارجه على الرغم من حدة هذا الخلاف المتصاعدة خلال الأعوام الماضية. يعني شيوع ثقافة التسامح في الممارسة العملية للسياسة في الدول الديمقراطية تثمين وطنية الجميع عوضا عن تخوين فريق أو حزب لآخر، وكذلك التسليم بدفاع الجميع عن المصلحة الوطنية والتزامهم الصالح العام حتى وإن تفاوت الطرح. أما في دولنا نحن فيندر أن تنظر نخب الحكم بإيجابية إلى وطنية المعارضة وسعيها لتحقيق الصالح العام وفقا لقناعاتها، تماما كما لا ترى المعارضة في الأغلب الأعم في فعل النخب خيرا يستحق الإشادة. فبينما تتسم ممارسة السياسة في الديمقراطيات بالبحث المستمر عن التوافق والحلول المشتركة وهو ما ينتج القبول والاحترام المتبادل بين الفاعلين، تعاني السياسة في دولنا من النزوع نحو إلغاء الآخر، شخوص ومواقف، ورغبة كل فريق في الاستئثار والانفراد بالساحة دون منافسين. الملمح الثالث هو التواصل الطوعي والمستمر بين السياسة برموزها وقياداتها والمواطنين. سجلت وسائل الإعلام الأمريكية العديد من المشاهد الإنسانية لمواطنين حضروا ولأسباب مختلفة لوداع السيناتور كنيدي. البعض منهم تحدث عن خدمات قدمها السيناتور لهم خلال عمله التشريعي، البعض الآخر تحدث عن إعجابه بمواقفه السياسية وشجاعته في الدفاع عن القيم الليبرالية للولايات المتحدة. مجموعة ثالثة من المواطنين أرادت وداعه عرفانا بخدمته للصالح العام وتفانيه في العمل حتى أثناء مرضه منذ صيف 2008. الهام رصده هنا، وهو أيضا مصدر تميز هذا الشكل من التواصل بين السياسة والمواطنين في الديمقراطيات عن أشكال أخرى تتسم بها الدول غير الديمقراطية، هو ارتباط التواصل بآليتي الديمقراطية الرئيسيتين انتخاب السياسيين من مشرعين وتنفيذيين والرقابة الشعبية عليهم. انتخب كنيدي لمجلس الشيوخ للمرة الأولى في بداية الستينيات وجدد الناخبون له بعد ذلك سبع مرات متتالية طواعية دون قسر لسجله المهني الناجح كمشرع. وإلى هاتين الخاصيتين تحديدا، طوعية الاختيار والتقييم الإيجابي لسجل السيناتور، استند التواصل بينه وبين المواطنين واستمراره الطويل في منصبه على عكس أغلبية معاصريه. بكل تأكيد تعرف الدول غير الديمقراطية أشكالا للتواصل بين السياسة والمواطنين قد ترقى إلى مستوى الحب الجارف للقيادات الكاريزمية، إلا أنها دوما ما تخلو من طوعية الاختيار ومن حق المواطن في تقييم السياسي والتأسيس لاستمراره أو غيابه وفقا لجوهر التقييم إيجابا أو سلبا ومن خلال آلية الانتخاب الدوري. أخيرا، وهو ما يذهب بنا بعيدا عن السجل المهني لكنيدي إلى تفاصيل حياته الخاصة وتقلباتها، يبدو أن للديمقراطيات قدرة خارقة على التعاطي مع رموز وقيادات السياسة والمجتمع بإنسانية لا تنسى أبدا كونهم بشر يجيدون ويخطئون في متوالية حياتية لا تتوقف سوى بالرحيل عن عالمنا هذا. تورط كنيدي بعد سنوات قليلة من بداية عمله كمشرع في حادث سيارة أودى بحياة رفيقة له وأثار حول سلوكه الشخصي العديد من الشكوك وكاد أن يضع نهاية لمستقبله السياسي لولا اعترافه علنا بخطئه واعتذاره عنه. نجاح كنيدي في تجديد ثقة ناخبيه به بعد حادثة البدايات هذه وفي الاستمرار لعقود أربع في مجلس الشيوخ الأمريكي بعدها يدللان بوضوح على أن ثقافة القطاع الأوسع من مواطني الديمقراطيات حين يقيمون السياسيين لا تعرف البحث عن الخير الخالص أو الشر المطلق، الأبيض والأسود، بل تتسامح مع الأخطاء شريطة اعتراف السياسيين بها ورجوعهم عنها واحترامهم مهنيا وشخصيا لثقة المواطنين. لا أريد أن أرسم صورة مثالية للديمقراطية ولا أنسى إخفاقاتها المتعددة في الولاياتالمتحدة وخارجها، إلا أنها تظل النموذج السياسي والمجتمعي الأرقى والأكثر إنسانية الذي أنتجته البشرية على مدار تاريخها والذي يتوجب على من حرم منها السعي لتحقيقها بكل السبل والوسائل، السلمية فقط بالطبع.