حيرنا السيد أحمد أبوالغيط حين قال فى رده على أسئلة الصحفيين إن المطالبة بسحب المبادرة العربية تعنى التخلى عن الرغبة فى إقامة الدولة الفلسطينية «الاثنين 7 / 6». وهو كلام استغربت له، لأننى افترضت أنه فى موقعه كوزير لخارجية مصر يعرف أن هذا الكلام غير صحيح، إذ لا علاقة بين المبادرة وإقامة الدولة، ناهيك عن أن مخططات السياسة الإسرائيلية تستهدف الحيلولة دون إقامة تلك الدولة، ليس فقط بما تحدثه من تغيير فى جغرافية الأرض، وإنما أيضا بما تضعه لها من شروط تجعلها مسخا مجردا من السلاح وعاجزا عن الحركة. وهذه الأوصاف تحتها تفاصيل كثيرة لا شك فى أن السيد أبوالغيط على علم بها. ولأننى أربأ به أن يكون مغيبا إلى الدرجة التى تجعله غير ملم بما بات معلوما من السياسة بالضرورة. فقد بقى لدى تفسير واحد لكلامه سابق الذكر، وهو أنه أراد أن «يستغفلنا»، وهو يبرر استمرار المبادرة التى جعلتها بعض الحكومات العربية بمثابة صك لتبرئة ذمتها، تدعى به أنها قدمت «رؤية» لإقرار السلام مع إسرائيل، ومن ثم أدت ما عليها، ولا يستطيع أحد أن يطالبها بأكثر من ذلك. وكأنها «بالمبادرة» القت بالكرة فى المرمى الإسرائيلى والمجتمع الدولى، بحيث تكون الخطوة التالية مسئولية الأخيرين. أعنى أن السيد أبوالغيط تحدث فى هذه النقطة باعتباره وزيرا يتعين عليه أن يدافع عن سياسة حكومة بلاده وأن يبررها ويزينها، وليس باعتباره دبلوماسيا عرك المشكلة وأحاط علما بملابساتها ومآلاتها. لأن الأمر كذلك، فإننى لا أقصد بالتعليق على كلامه أن ألفت انتباهه إلى ما يعرفه، ولكن قصدت أن أخاطب الذين تلقوا كلامه وصدَّقوه. إذا لا أشك مثلا فى أنه يعرف الفرق بين تحرير فلسطين وبين مسألة إقامة الدولة. وأن اختزال القضية فى الدولة وتجاهل استعادة الأرض المحتلة منزلق خطر، يخدع الناس ويستغفلهم بدوره. خصوصا أن ثمة ألف لغم فى مواصفات الرقعة المرشحة ومساحتها وفى مواصفات الدولة المنشودة (إسرائيل لا تريد العودة إلى حدود عام 67، كما أنها تتحدث عن دولة منزوعة السلاح، وتحت سيطرتها الكاملة فى البر والبحر والجو). أريد أن أقول إن الدولة ليست جوهر الصراع، وإنما ذلك الجوهر يتمثل فى الأرض التى لا تكف إسرائيل عن ابتلاعها بمختلف الحيل. لذلك فإن وضع القضية قبل المبادرة كان أفضل منه بعدها. وربما يذكر البعض أن منظمة «التحرير» حصرت نضالها فى المطالبة بتحرير الأرض منذ الستينيات وحتى قبل قمة بيروت فى عام 2002، ولكن المبادرة التى أعلنت فى تلك القمة كانت خطوة إلى الوراء وليس إلى الأمام (لا تنس دور الصحفى الأمريكى توماس فريدمان فى إطلاقها من خلال ولى العهد السعودى الأمير عبدالله (الملك الآن) لتحسين صورة المملكة التى شوهتها أحداث سبتمبر 2001 التى قيل إن أغلب المشاركين فيها كانوا من السعوديين). ذلك أنها قدمت لإسرائيل مشروع صلح مفتوح تنازلت فيه عن حق العودة. وهو ما سوغ لها أن تلعب بالمبادرة، خصوصا فى شقها المتعلق بيد الصلح الممدودة، فرفضتها فى العلن، وعمدت إلى تفكيكها فى الواقع، حيث رحبت بالصلح وعملت على تنشيطه باختراق جدار المقاطعة العربية، وإضافة إلى رفضها الانسحاب إلى حدود 67، فإنها طرحت فكرة تبادل الأراضى، فى حين أطلقت العنان للاستيطان والتهجير والتهويد. ومنذ ظهرت السلطة الفلسطينية فى الأفق فإن قضية تحرير الأرض تراجعت إلى الوراء وأصبح الجدل والسجال يدوران حول تبديد الأرض! لقد تحولت المبادرة العربية فى حقيقة الأمر إلى ضوء أخضر لإسرائيل لكى تنفذ مخططاتها فى الأرض المحتلة. وإلى مخدر تعاطته الأنظمة العربية وأوهمها أنها قدمت مشروعها للسلام. ولأنها مفتوحة، فقد بدا كأنها صممت لكى يظل انتظارها مستمرا حتى تفرغ إسرائيل من تحقيق كل مخططاتها. من ثم فإنها استحقت أن يوصف التلويح بها بأنه أقرب إلى ما نسميه «حجة البليد». فى عام 2002 أعلنت المبادرة، وبعدها شرعت إسرائيل فى بناء الجدار العازل وقتلت ياسر عرفات وأسرعت فى خطى الاستيطان وهدم بيوت المقدسيين ولعبت بالمفاوضات وبعد سبع سنوات، فى عام 2009، أعلن العاهل السعودى فى قمة الكويت الاقتصادية، أن المبادرة لن تبقى طويلا على المساندة. فهلل العرب وظنوا أن القمة تبعث برسالة تحذير، ولكن بعد 18 شهرا من ذلك التصريح لم يحدث شىء سوى دعوة مجلس الأمة الكويتى إلى انسحاب بلدهم منها، ثم خرج علينا السيد أبوالغيط بكلامه الذى أفهمنا فيه أن استمرار المبادرة شرط لإقامة الدولة الفلسطينية. المدهش أنه كان جادا فيما قاله، ولم يكن يداعب سائليه أو يمزح معهم!