صناعة الآلهة وتأليه البشر وتقديس الأبطال والاحتفال بهم اختراعات مصرية صميمة! فلنبدأ القصة منذ البداية؛ يعد الدين أو بمعنى أصح التدين العميق المفتاح الحقيقى لفهم طبيعة المصريين ولتحليل أبعاد الشخصية المصرية. وفى هذا الصدد، وصف الكتاب الكلاسيكيون مصر بأنها «معبد العالم» و«أن الآلهة لاتزال تسكن هناك». ومن مصر خرج الدين بامتياز للعالم القديم كله. واستثمرت مصر بشكل ناجح العقل الغيبى ووظفت الخرافة للسيطرة على الخوف وقهر المجهول. وكان من قوة الديانة المصرية أن اشتهرت الآلهة والإلهات المصرية خارج حدود مصر وغزت الإمبراطورية الرومانية فى عقر دارها وفى أرجاء عديدة منها حتى صارت عقائد المصريين خطرا حقيقيا يهدد مجد الإمبراطورية والديانة الرسمية للدولة؛ فبدأت فى محاربتها. ولعب الدين الدور الأساسى فى كل ما أنجزته مصر عبر تاريخها الحضارى الطويل. وعن المصريين، يقول المؤرخ الإغريقى الأشهر هيرودوت «أبو التاريخ» أو «سيد المؤرخين الأوائل»، أو «أبو الأباطيل»؛ نظرا لاحتواء كتاباته على العديد من الأكاذيب فى كتابه الثانى عن مصر من كتبه التسعة موضحا: «وهم يزيدون كثيرا عن سائر الناس فى التقوى». فبرعت مصر فى اختراع الدين سابقة بذلك حضارات العالم القديم جمعاء فى هذا المضمار. وتفنن المصريون فى صناعة آلهتهم وتقديس معبوداتهم. وتعددت وتنوعت وتداخلت تلك الآلهة والمعبودات بشكل مذهل فاق كل التصورات. وكان من بين ما استرعى انتباه هيرودوت وكذلك آثار آخرين غيره من الكتاب والباحثين إلى وقتنا الحالى تقديس المصريين للحيوانات. فنراه يقول متعجبا فى هذا الأمر: «لكن المصريين يقدسون كل الحيوانات التى توجد فى بلادهم مستأنسة كانت أم غير مستأنسة». وبلغ المصريون حدودا قصوى فى إسباغهم هالات من القداسة وأطوارا من الحماية وآيات من الخوف على رموزهم المقدسة (من آلهة وإلهات وحكام وبشريين مؤلهين وحيوانات) التى أبدعوها بمخيلتهم التى جبلت على عشق الخوف والاستماتة لدرء الخطر بتقديس مظاهره واتخاذ معبودات تمثله حتى يتجنبوا شره، وحب جلب المنفعة بتقديس مظاهر الطبيعة المفيدة وتخصيص آلهة لها بارة بهم وبأرضهم. وكان التوفيق بين المعبودات القديمة ذات الأصول التاريخية العريقة والمعبودات الجديدة الوافدة سمة بارزة من سمات الشخصية المصرية التى تقدس وتبقى القديم والجديد معنا دون نفى للقديم أو انتصار للجديد، وفى تناغم لم يجد المصريون فيه أية غضاضة أو غرابة. وفى هذا ما يؤصل لفكرة الثبات والجمود ومعايشة القديم جنبا إلى جنب مع الجديد دون تحقيق أى تقدم أو تطور يذكر على أى صعيد من الأصعدة على الرغم من التظاهر الملح بالتعددية والتسامح والتعايش. ويقول هيرودوت أيضا: «لقد جاءت أسماء الآلهة كلها تقريبا من مصر إلى بلاد اليونان». وفى هذا ما يشير إلى الأصول المصرية لآلهة الإغريق؛ فمعظم آلهتهم «وجدت دائما منذ القدم فى مصر»، كما يذكر هيرودوت الذى يؤكد أن المصريين لم يعتقدوا «مطلقا فى عبادة الأبطال» كما عرفها الإغريق. ففى رأيه أن البطولة الفردية لم تكن موجودة فى مصر. وقد يكون هذا الأمر صحيحا إلى حد ما فى زمن زيارته لمصر فى حوالى منتصف القرن الخامس قبل الميلاى عندما كانت مصر فى أسوأ حالاتها ويوشك العطاء الحضارى لأبناء وادى النيل الخصيب أن يصل إلى مرحلة الشيخوخة والانزواء فى زوايا الموات وجنبات النسيان. غير أن البطولة الفردية وتقديس الملوك الأسطوريين والأفراد الأفذاذ كانت نهرا لا ينضب فى مصر؛ فخلف كل بطل يموت يولد بطل جديد يأتى من المجهول من غير المعروفين والمتوقعين يحيل ظلام مصر الحالك إلى شمس وضاحة الضياء، ويحمل مصر بين جوانحه وفى حنايا قلبه، ويبذر بذور الخير والعدالة والنظام والأمن والرخاء. وحتى يشعر المصريون آلهتهم وحكامهم والبشر المؤلهين وحيواناتهم المقدسة بمكانتهم العالية لديهم، اخترع المصريون الأعياد والاحتفالات والليالى الملاح. ويقول هيرودوت فى هذا الشأن: «ولقد سبق المصريون الشعوب إلى إقامة الأعياد العامة والمواكب العظيمة، وعنهم تعلمها اليونانيون. ودليلى على ذلك أنها تقام عند المصريين منذ زمن بعيد، بينما لم يحتفل بها اليونانيون إلا منذ وقت قريب. والمصريون لا يحتفلون مرة واحدة فى السنة بعيد شعبى عام؛ ولكن أعيادهم العامة كثيرة». فالأعياد والاحتفالات الكثيرة بمناسبة ودون مناسبة هى الأخرى مصرية الأصل ومرتبطة فى المقام الأول بإظهار آيات التبجيل والإجلال والتقديس من قبل الشعب لرموزه المقدسين من أجل أن يسعد الشعب وينعم بالاحتفال الجماعى. ونظرة غير عميقة إلى ما حولنا من ظواهر وأحداث وأشخاص فى كل حارة وشارع فى كل حى وقرية ومدينة يتضح لنا صدق مقولة أن صناعة الآلهة وما يرتبط بها عادة مصرية.