فى الحلقة الأولى من عرضنا لكتاب «ذكرياتى عن الثورة» لسليمان حافظ، الصادر حديثا عن دار الشروق، أشرنا إلى الجدل الذى تثيره شخصية سليمان حافظ القانونى القدير الذى استغل هذه المقدرة فى تثبيت دعائم ثورة يوليو. لكننا لم نشر إلى أن سليمان حافظ حينما تحدث عن الثورة كان يقصد ثورة يوليو لا ثورة 1919؛ لأنه عاش حوالى واحد وعشرين شهرا فى أحضانها. ومن مقدرة حافظ القانونية، كما جاء فى الصفحات الأولى لذكرياته، أنه فى منتصف ليلة الجمعة 24 يوليو اتصل به رئيس مجلس الوزراء طالبا أن يلاقيه فى ساعة مبكرة من صباح الغد فى مقر الرياسة ببولكلى. ولما التقاه سلمه وثيقة بخط اللواء محمد نجيب وتوقيعه تتضمن الطلبات التى تقدمت بها لحكومته القوات المسلحة، وهى تنحصر فى تعديل بعض تشريعات الجيش، وطلب رئيس مجلس الوزراء من حافظ أن يعد «فورا» لاحظ كلمة فورا بالاتفاق «مع وزير العدل ما نستطيع إعداده من مشروعات قوانين التعديل، لإصدارها قبل مجئ اللواء محمد نجيب ظهر ذلك اليوم لمقابلته. وقد تم إعداد ثلاثة من هذه المشروعات أقرها مجلس الوزراء ووقعها الملك قبل موعد المقابلة». ومقدرة حافظ لم تتوقف على صناعة القوانين أو تفصيل الدساتير مثل إعداده وثيقة التنازل عن العرش أو قانون تنظيم الأحزاب السياسية، بل إن الذكريات التى انتهى منها حافظ عام 1956 بها إشارة مهمة على حنكة وفهم حافظ لرجال الثورة وتنبؤ بمدى أهمية أنور السادات، إذ قال حافظ: «بعد الإفراج عن فتحى رضوان، انتهزت هذه الفرصة فبعثت مع مدير الأمن برسالة إلى فتحى أن يلاقينى بالطائرة القادمة إلى الإسكندرية... وكان لى فى استدعائه غاية فى نفسى لما رأيت مع اللواء محمد نجيب البكباشى أنور السادات، فأدركت أن له شأنا فى ثورة الجيش». ويكمل حافظ: «أردت أن يكون فتحى رسولى إلى رجال الثورة فى أمر كنت أعتقد أنه لا مندوحة منه لنجاحها». ولكن ما هذا الأمر الذى كان يريده حافظ؟!. تجئ الإجابة: «وكنت على موعد بعد ظهر ذلك اليوم مع الدكتور السنهورى، فتبادلنا الرأى فى تطورات الموقف. وفى أثناء الحديث قال لى إنه لا يأمن على حركة الجيش ما لم يُخلع الملك، وعندئذ أطلعته على السبب الذى من أجله استدعيت فتحى، فطلب منى أن ألزم جانب الحذر لخطورة ما أنا مقدم عليه، وما قد يترتب عليه إذا لم يتم الأمر. ولما قابلنى فتحى سألته هل توليت الدفاع عن البكباشى أنور السادات فى إحدى القضايا السياسية؟ قال إنه عرفه فى قضية أمين عثمان، وإن لم يكن محاميه فيها. فصارحت فتحى بما قام فى نفسى. قلت له: إن هذه الثورة لن تؤتى ثمرتها ما لم يُخلع الملك فى الحال، وإن هذه الفرصة إن مرت فلن تعود، وإذا بقى الملك على العرش فلا أمان للثورة منه ولا للثوار من بطشه، وإننى ما استقدمته إلا ليتصل بأنور السادات ويعمل على إقناعه وزملائه بهذا الرأى، وعلىّ أن أبذل كل جهدى لدى رئيس الحكومة لضمان نفاذه». حزب الوفد العدو اللدود يظهر بوضوح عداء سليمان حافظ لحزب الوفد، إذ تحت عنوان «الوصاية على العرش» قال حافظ: «بوغتت الأحزاب السياسية بحركة الجيش فتحفظت فى أول الأمر، بل لقد قصد بعض رجالات الوفد غداة الحركة إلى قصر رأس التين فقيدوا أسماءهم فى سجل التشريفات إشعارا للملك بأنهم فى جانبه. وما مر يومان حتى رأيت بعض زعماء هذا الحزب فى ثكنات مصطفى باشا ليلة نزول الملك عن العرش معربين عن تأييدهم للحركة. وإذا لم تخنى الذاكرة، فقد كان من بينهم واحد من هؤلاء الذين قيدوا أسماءهم فى سجل التشريفات». يتجلى أيضا فى ذكريات حافظ التى تقع فى 152 صفحة من القطع المتوسط، أنه كان يريد أن يوفق الحال بين محمد نجيب وزملائه، خاصة جمال عبدالناصر، وإعداد مشروع لتوزيع العمل فى رياسة مجلس الوزراء بين رئيس المجلس ونائبه، لكنه فشل فى التوفيق، وانتهى الأمر كما نعرف، كذلك كان يريد أن ينظم حالة الحكم فى مصر وتثبيت دعائم نظام الحكم الجمهورى، كما أنه كان يريد ترك كل المناصب ليتفرغ لمهنة المحاماة. ومن الحكايات الشيقة والغريبة التى تتضمنها الذكريات واقعة الاعتداء على السنهورى فى مجلس الدولة، وبالطبع هذه الحكاية ليست جديدة بالكامل، يقول عنها حافظ: «ولم يكن لدينا شك فى أن الاعتداء كان مدبرا، ولكن الذى اختلفنا فيه هو أشخاص المدبرين. فقد حملت ظروف الحال السنهورى على نسبة التدبير إلى جمال عبدالناصر وصحبه، بينما استبعدت أن يكون ذلك منهم لانعدام الباعث من جهتهم، إذ كانوا يعلمون أن السنهورى لم ينحز إلى جانب أى من الفريقين فى الخلاف الواقع بينهما، بل لعله كان فى المرحلة الأخيرة منه أكثر لوما لنجيب منه لصحبه... وبقى السنهورى على رأيه، فاتهم جمالا فى تحقيق النيابة بالتحريض مستدلا على ذلك بملابسات الاعتداء». ويكمل حافظ القصة: «وبقيت على رأيى هذا أى أن الفاعل ليس هو جمال عبدالناصر إلى أن حدث أخيرا ما دعانى إلى إعادة النظر فيه. ذلك أنه بعد وقوع الحادث بحوالى سنة ونصف السنة، ضمنى مجلس تناول الحديث فيه قصة الاعتداء وأسبابه، وإذا بأحد الحاضرين يفاجئنى بقوله: إننى أنا المتسبب فيما وقع من اعتداء على السنهورى. قلت مندهشا: وكيف؟! قال: بترشيحك إياه للوزارة المدنية إبان التسوية التى اقترحتها أنت والعمرى على نجيب وأصحابه». أخيرا، تبقى ذكريات سليمان حافظ أحد المصادر المهمة لدراسة تلك الفترة، على أمل أن يعلق عليها الباحثون والدارسون لتقييمها ومقارنتها من جديد بأقوال المعاصرين له، لمعرفة ملابسات أحداث هذه الفترة المهمة فى التاريخ المصرى.