بإغلاق كافيتريا لاباس تغيرت أشياء كثيرة بوسط البلد، ومالت رمانة الميزان فى اتجاهات أخرى ومال معها صاحبنا فى اتجاه النقيض التام تأتى هذه الجملة فى قصة «مناضل الكابتشينو» لتعبر عن جوهر كتاب مكاوى سعيد الجديد «مقتنيات وسط البلد»، الذى يوثق ويقيم فيه مقتنياته وذكرياته الثمينة عن شخصيات عرفها وأحبها، شخصيات كانت تحمل بذور التحقق والنجاح قبل أن يطويها النسيان. يروى صاحب تغريدة البجع بعد أربع سنوات من صدور روايته اللافتة التى احتلت مكانها فى قائمة البوكر القصيرة حكايات قلب القاهرة التى تتبلور فيها أحاديث الفن والسياسة والثقافة والصعلكة، يضحكنا مع شخصياته التى رسمها الفنان عمرو الكفراوى دون أن يجعلنا نضحك عليها، فهو لا ينس أنه أحد هؤلاء. يستكمل الكاتب حواره المتصل مع قرائه مساء اليوم فى مكتبة الشروق بالمهندسين والخميس القادم بمكتبة ديوان. ما المحرك الذى دفعك لكتابة مقتنيات وسط البلد؟ كتابة المقتنيات كانت حلما راودنى منذ ثمانى سنوات قبل حتى أن أشرع فى كتابة رواية تغريدة البجع. جزء من الكتابة أنى أحاول تقديم مناخ عام لفترة أحببتها وهى فترة شبابى فى وسط البلد وتحديدا فى الثمانينيات. وأن أقدم هذه الشخوص والأماكن التى عرفتها لجيل جديد بحيث يرى من خلالها نموذج المتحول اليسارى الذى ينقلب على مبادئه، أو صاحب القضية الذى يصبح مع التطبيع وغيرها من المتناقضات. ليرى كيف تغيرت هذه الشخصيات أو توقفت عن الإنتاج أو استسلمت للكلام المرسل وأهدرت موهبتها ولم ترتق بها. كان مشروع كتابة «مقتنيات وسط البلد» رد اعتبار لهذه الشخصيات المتميزة والمهمشة فى آن والتى طواها النسيان؟ حلمى كان أن أتحدث عن مناخ منطقة وسط البلد فى هذه الفترة، لأن الأماكن تتغير وتتبدل لكن روح المكان نفسها كان يرجع الفضل فيها للمثقفين، هؤلاء الذين لمع منهم أقل القليل، والباقى لم يكمل المشوار سواء لسبب الهجرة أو لظروف خارجة عن الإرادة. وقتها كانت مسألة الفرز والنشر شديدة الصعوبة مما كان يحول دون التعرف على المواهب الشابة ومتابعة الحياة الثقافية، أذكر أننا كنا نقف فى الطوابير أمام الهيئة العامة للكتاب التى كانت الجهة الوحيدة المضطلعة بالنشر وإن حالف أحدنا الحظ يتم نشر الكتاب بعد ست سنوات! هذا المناخ أثر بالطبع على هذه الشخصيات التى تناولتها فى الكتاب وأحببت أن أكتب هذه التجربة بامتنان لأنى فلت منها من حسن حظى. هل راودك إحساس بعد نجاح روايتك «تغريدة البجع» بأنك تخليت عن قومك أو أنك نجحت بينما ظلوا هم فى الهامش؟ هذا الكتاب كان مشروعى الأساسى قبل كتابة تغريدة البجع، فأنا كنت واحدا من هؤلاء قبل التغريدة، وكانت فرص شهرتى محدودة، وكنت أتمنى أن أنجز الكتاب وينشر بعد وفاتى لأنى كنت وقتها سأعد واحدا منهم. فهو نوع من التوثيق لفترة أشعر أنها شديدة الثراء بشخصياتها وأماكنها، فهناك العديد من الأماكن التى اختفت أو التى سُلبت روحها مثل «أسترا» أو مقهى «على بابا» أو «إيزافتش» أو «ريتز» وغيرها. وحرصت أن أقدم نموذجا لليلة واحدة (فى فصل «كائنات أسترا» مثلا) فى مقهى أسترا والمناخ الذى كان سائدا والذى كان يجتذب الكثيرين، حيث صوت محمد نوح مجلجلا فى أرجاء المكان وفى زواياه يجلس يحى الطاهر عبدالله ثم مجموعة السينما الجديدة وفى نهاية الليل يأتى الفنانون مثل عادل إمام وسعيد صالح وعروض المسرح والغناء والشعر التى لم تكن تنقطع فى جنباته. هل تتأسى على وسط البلد اليوم والتحولات التى طالتها؟ لم يكن غرضى من استدعاء تلك الأماكن والشخوص أن تبدو الصورة قاتمة، لأن هناك أماكن جديدة حلت محل القديمة ولابد أن بعضها كان إضافة إلى وسط البلد مثل مسرح روابط وقاعات الفن التشكيلى أو المكتبات هناك بالقطع أشياء إيجابية، لكن الشجن يأتى من الانحياز لبداياتى. زمان على سبيل المثال لم تكن وسط البلد بهذا الازدحام، ففى بحثى لتوثيق الأماكن وحكاياتها اطلعت على عقود الايجار لبنايات ممر بهلر التى كانت مملوكة لرجل سويسرى فى ثلاثينيات القرن الماضى اكتشفت فيها أشياء مدهشة فقد كان ممنوعا على الساكن تعليق لافتة تجارية أو نباتات فى الشرفات، أو تغيير طلائها الخارجى، وممنوع الخروج فى الشرفة بملابس النوم، أو تعليق الغسيل فى واجهة البناية، وكان ينبغى احترام فترة القيلولة من الثالثة عصرا إلى الخامسة مساء ويمنع فى هذه الساعات عزف البيانو، واتضح أن غالبية الطبقة المتوسطة كانت تمتلك البيانو ضمن مقتنيات البيت. اليوم هناك مشروع القاهرة الخديوية الذى من المفترض أن يعيد إحياء الأماكن والمنطقة حضاريا ولا يقتصر على مجرد طلاء العمارات، فاليوم المصالح الحكومية التى تكتظ بها وسط البلد تعوق أى مشروع تحديثى أو حضارى. هناك أيضا مشروعات استثمارية كبرى لشراء أبنية وسط البلد، هل تنظر لها بقلق على مستقبل أماكن وسط العاصمة الأثيرة لديك؟ لا أحب التقصى على الضمائر أو أن أقع فى فوبيا المؤامرات، أتمنى لوسط البلد أن تكون منطقة جميلة بقامتها الثقافية وأبنيتها وأن يكون مالكوها مصريين وطنيين غيورين عليها. رغم الروح الحداثية التى كتبت بها «مقتنيات وسط البلد» فإن عنوان الجزءين اللذين يقسمان العمل «كتاب البشر» و«كتاب المكان» يحيلان إلى الشكل التراثى، لماذا آثرت هذا البناء؟ الحكاية الأساسية فى المقتنيات هى الأشخاص، لكنى وجدت نفسى لا أكف عن تسجيل الهوامش فى ذيل كل قصة، وزادت الهوامش لدرجة تصورت أنها ستربك القارئ. فقررت أن أدقق معلومات المكان وأضيف عليها واستغرقت منى عاما ونصف العام من البحث لأن أغلب التوثيق لأماكن وسط البلد به معلومات متضاربة وحاولت أن أتحرى الدقة فيها. الاعتماد على شخصيات من الواقع اليومى يسهل التعرف عليها بين مرتادى وسط البلد ألا يؤثر على كسر التوقع المنتظر فى العمل الأدبى؟ أكتب لقارئ عام فى مصر وفى البلدان العربية وبلدان العالم (فى حالة الترجمة)، فأضطر لوصف المنطقة حتى وإن كانت معروفة لعدد من القراء، فإن عددا محدودا من القراء يعرف هذه الشخصيات. فقد حرصت على أن أُجهل الأسماء وألا تتعدى نسبة الواقع فى المقتنيات سوى 30% والباقى كله خيال. لأن أساس الأمر أنه عمل فنى لهذا كنت حريصا على ألا تكون كتابة بورتريه سريع أقرب إلى الكتابة الصحفية، فحقيقة الشخصيات لا تهم أحد لكن المهم هو مضمون القصة وتناولها الفنى. لكن لماذا تعتبر كتابة البورتريه نقيصة فى الوقت الذى كتب أعلام الأدب العالمى هذا النوع مثل لابرويير فى القرن السابع عشر؟ فكرة قالب البورتريه يتم ابتذاله بسهولة، فيصبح الأسلوب الأدبى مسطحا والكتابة تتصف بالخفة. فالأمر لا بد أن يختلف حين يكتب الأديب ملامح الشخضية بمقومات القصة القصيرة وروحها الابداعية. الكاتب الظاهرة مثلا الذى يتعاطف معه الكاتب ويعتبره صاحب خيال وسخرية لا مثيل لها كيف تعاملت مع هذه الشخصية بين الخيال والواقع التوثيقى الذى تريد تسجيله؟ هذا الكاتب كان لكتبه الفضل فى ادخال البهجة على لسنوات كلما قرأت مقاطع من أعماله، والاقتباسات التى أوردتها مأخوذة من أعماله بالفعل. فهل هناك خيال أجمل من هذا الذى يصوره للمحب الولهان الذى يخطط للقاء رومانسى على شاطئ البحر، وحين تتبرم المحبوبة من رائحة البحر «الزفرة» يذهب بالصابون النابلسى ليغسل ماء البحر! هل هناك خيال بعد هذا؟! توشك الطبعة الأولى من مقتنيات وسط البلد على النفاد بعد شهر واحد من صدورها، ورغم ذلك لا يروى الكتاب انتظار البعض خاصة الذين هاموا حبا وتعلقا برواية تغريدة البجع، كيف ترى ذلك؟ كتاب المقتنيات كتاب مصنف عن الشخصيات والأماكن أقرب إلى القصص القصيرة، فهو ليس رواية، لكنى أعتبره إضافة إلى الرواية. أنا أحترم قرائى الذين ساندونى فى تغريدة البجع ووضعونى فى هذا المكان الذين ينتظرون منى الرواية القادمة، ولن أقدم لهم إلا رواية بحجم تغريدة البجع. فلا تزال تنهال على عروض نشر روايتى الجديدة لكنى لن أوقع على أى منها إلا حين انتهى من كتابتها، لأنى ببساطة لا أريد أن أقع تحت ضغط إغراء النشر على حساب المنتج الأدبى، أما المقتنيات فهى مصنف آخر. فقد كتبت القصة القصيرة وحصلت على جوائز فيها وفى السيناريو التوثيقى وفى الرواية، وكلها إضافات فى مسيرتى الابداعية. فقبل رواية تغريدة البجع لم أكن أحلم أن أرى جارى فى المترو يقرأ روايتى، أو أن تستوقفنى الناس فى الشارع لتحيتى، أو أن تأتى حسناء إلى المقهى لتطلب منى أن أوقع على كل جزء أعجبها فى الرواية. لم أكن أحلم بكل هذا وآليت على نفسى ألا أتعجل أو أن أقدم للقارئ الجميل الذى دعمنى شيئا هزيلا. لقد عشت لسنوات طويلة فوق خط الفقر بقليل فلا مانع أن أعيشها سنوات أخرى. تبدو من خلال كتاباتك كما لو كنت موزعا بين صوت جيل الستينيات الذى يروى بشجن عن البطل المهزوم ويتأسى على تبدل أحوال المدينة وبين كتابة الجيل الجديد التى تفتش فى الحياة اليومية للمدينة، أين تقف وسط القيضين؟ أنتمى إلى جيل الثمانينيات رغم عدم إيمانى بالتقسيم الصارم للأجيال، جئت على جيل سابق بحكاياته وعاصرت نجيب محفوظ فى على بابا وكنت أرى عن بعد أمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله وسمعت الكثير من أساتذتى سليمان فياض وعبدالوهاب الأسوانى وغيرهما مما ينعكس فى سرد المقتنيات. جيل الثمانينيات كان مرحلة وسط بين الستينيات ببريقها والسبعينيات المتمردين عليهم، جئنا نحن فى أجواء عدم النشر. أما هذا الشجن فى العلاقة بالأماكن فليس محركه الحنين الذى كان يعترى الكاتب الستينى، بل يجوز بسبب أنى مواطن أصيل من وسط البلد وأشعر بالتحول الذى يصيبها فى الوقت الذى قد يراها الزائر البعيد بعيون منبهرة مثل سائح لا علاقة له بالمكان.