لست مرتاحا لقرار وزير الداخلية بإهداء كل صاحب سيارة حقيبة الإسعاف الأولية والمثلث العاكس، حين يقوم بتجديد رخصة سيارته، ابتداء من أول شهر مايو المقبل. ذلك أننا اعتدنا أن تكون هدايا الحكومة ملغومة ومفتقدة إلى البراءة. ولن يستطيع أحد فى بر مصر أن ينسى هدية عيد العمال فى أول مايو الماضى، حين أعلن الرئيس مبارك عن علاوة الخمسين فى المائة من الرواتب، ثم فوجئنا بعد أيام قليلة بقرارات رفع الأسعار، التى ألهبت ظهور الجميع، على نحو جعل الناس يتمنون لو أن الرئيس سحب قرار العلاوة وأعاد الأسعار إلى ما كانت عليه قبلها. يضاعف من الشك فى براءة القرار المذكور أنه يسرى بدوره ابتداء من أول مايو، وكما نعلم فإن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وليست هذه أى لدغة، لأنها حين تأتى من الحكومة تصبح مضروبة فى عشرة. وإذا كان ذلك شأن هدايا الحكومة بوجه عام، فما بالك بها حين تأتى من وزارة الداخلية التى تغرقنا ب«هداياها» منذ أعلنت حالة الطوارئ، قبل ثلاثين عاما تقريبا. وحين توددت إلى الناس وأعلنت شعار «الشرطة فى خدمة الشعب» جرى ما جرى فى البلد، حتى لم يعد يذكر اسم الشرطة إلا وسارع كثيرون إلى تحسس أصداغهم وأقفيتهم، وبعد «الكليب» الشهير الذى سجل ما جرى فى قصة «عماد الكبير»، فإن البعض أصبح يختبئ على الفور ويتحسس أماكن أخرى. أما الذين اعتقل أبناؤهم وآباؤهم أو عذبوا فلسنا بحاجة لأن نصف حقيقة مشاعرهم، باعتبارهم أخبر الجميع بهدايا الداخلية. إن أى قارئ فى مصر يتابع ما تنشره الصحف اليومية عما يحدث للمواطنين الذين يدخلون إلى أقسام الشرطة، أو المواطنين الذين تدخل الشرطة بيوتهم لأى سبب، أغلب الظن أنه حين يقرأ خبر هدية وزارة الداخلية سوف يسارع إلى بيع سيارته والتخلص منها قبل أن يحين موعد تجديد الرخصة. أما إذا لم يكن لديه سيارة فسوف يسجد لله شكرا أن أعفاه من تلك الهدية. ولا أستبعد أن يذهب متهللا إلى حافلة الركاب التى يستقلها كل صباح، ليصافح المتزاحمين فيها ويقبلهم واحدا واحدا باعتبارهم شركاء له فى النجاة من فخ هدية الداخلية. ولن أستغرب إذا توافد عليه أقرباؤه لتهنئته بهذه المناسبة السعيدة. منذ متى وبأى مناسبة توزع الداخلية الهدايا على الناس؟. خصوصا إذا كانت تلك الهدايا سلعا مصنعة ولها ثمنها الذى بوسع أى صاحب سيارة أن يتحمله. وإذا كانت الداخلية حريصة على التودد للناس وكسب ثقتهم فإن هناك أمورا كثيرة تستطيع أن تلجأ إليها. دون أن يكلفها ذلك أى أعباء مالية من تصنيع أو استيراد أو غير ذلك. وإذا اكتفت الداخلية باحترام كرامات الناس، وكفت عن إهانتهم وتعذيبهم، فإنها ستقدم أكبر هدية للمجتمع، بل وللبلد الذى فضحته تقارير منظمات حقوق الإنسان والعفو الدولية، حتى ساءت سمعته لدى القاصى والدانى. فى الوقت ذاته، فإننى لا أفهم فى الظروف الاقتصادية الراهنة أن تلجأ الداخلية إلى شراء الحقائب والمثلثات بمئات الألوف من الجنيهات لكى توزعها بالمجان على أصحاب السيارات. وإذا كان لديها فائض مال فلتنفقه على تحسين الأحوال المعيشية للجنود، الذين يلجأ بعضهم إلى التسول بعد فراغهم من أعمالهم. الذى أرجحه أن تقدم «الهدايا» إلى أصحاب السيارات بالمجان فى الوقت الذى تضاف فيه قيمتها مضاعفة على الرسوم والتمغات التى يتم تحصيلها منهم. وهو تصرف لا يخلو من منطق، رغم أن الداخلية ليست مضطرة إليه. وربما كان الأوفق والأكثر وضوحا واستقامة أن تباع الحقائب والمثلثات بأسعارها الحقيقية من منافذ المقار التى تجدد منها الرخص، شأنها فى ذلك شأن المستلزمات الأخرى، مثل الاستمارات وطفايات الحريق ولوحات الأرقام وغير ذلك. لست أشك فى أن لدى الخبراء بدائل أخرى لتحقيق المراد ربما كانت أفضل مما ذكرت. لكن ما أرجوه أمران: أولهما: ألا تقدم الداخلية أى «هدايا» للناس، وثانيهما: ألا يكون أى إجراء بديل فى أول مايو. لقد طوقت الداخلية أعناق الناس وأقفيتهم بهدايا لا حصر لها، ولا نريد المزيد.