حلمى التونى فى الخامسة والسبعين من عمره.. أمده الله بالعمر والعافية.. هذه إذن مناسبة للحديث والحوار عما يقرب من ستين عاما من تاريخ الثقافة والفن التشكيلى فى مصر، حيث خطا التونى خطوته الأولى فى العمل فور حصوله على التوجيهية والتحاقه بكلية الفنون الجميلة، كان فى السادسة عشرة من عمره حين التحق بالعمل فى دار الهلال. ومنذ ذلك الوقت والتونى يشع إبداعا تشكيليا وصحفيا لا ينقطع فى رحلة طويلة، زامل فيها عظماء الثقافة والصحافة المصرية والعربية، عرف نجيب محفوظ وهيكل وأحمد بهاء الدين والأخوين على ومصطفى أمين. هو سيد الغلاف بالنظر إلى إبداعاته فى تصميم أغلفة الكتب والمجلات المصرية والعربية، وهو أيضا أحد علامات الفن التشكيلى المضيئة. فى حياة التونى محطات لا تنسى، منها ارتحاله المفاجئ عن مصر إلى بيروت فى السبعينيات من القرن الماضى حين وجد نفسه مع 104 من الصحفيين والكتاب مفصولا من عمله بقرار من الرئيس السادات، فاختار بيروت مرفأ لإبداعه، حيث عاصر أهوال الحرب الأهلية فى لبنان، ثم عاد إلى مصر فى الثمانينيات. «لا ينضوى (التونى) تحت لواء مدرسة فنية بعينها هو يعزف على سطح اللوحة «أنشودته»، ولأنه يبدأ بالإنشاد لنفسه وحنين ذاته فإنه يمس مشاعرنا وحواسنا بذلك «الناى» الحامل لأجواء السحر فيجعلنا شركاء فى إبداعه». هكذا لخص الفنان كمال الجويلى رئيس الجمعية المصرية لرواد الفن التشكيلى حلمى التونى فى كلمات معدودات. الدردشة مع مثقفينا الكبار، تضعك على خط فاصل بين شعورين. الأول إحساس بنشوة سعادة ومتعة، والثانى شعور بالحزن على زمن مر دون أن يترك سوى ذكريات حلوة. الترحم على الزمن الفائت كلام تقليدى، ومعروف يقال طوال الوقت، ليس فقط فيما يخص الثقافة والفنون، ولكنه حديث بين عموم الناس فى المواصلات العامة يقولون «الله يرحم أيام زمان». ولكن رغم تقليديته، لم أستطع منع دماغى من الانشغال به، بعد الحديث مع الفنان التشكيلى الكبير حلمى التونى، الذى نحتفل معه هذه الأيام بعيد ميلاده الماسى. خمس وسبعون سنة، قضى أكثر من ثلثها فى عطاء فنى لم ينقطع، لم تعقه منغصات الفكر التى تنشطر يوما بعد آخر لتكّون مظلة سوداء ضخمة، تحول بيننا وبين نور العلم والفكر، وتمنعنا من مجرد الاجتهاد. هو فنان تنتقل ريشته بين عالمين، الأول عالم اللوحة التشكيلية التى قدم فيها الكثير، والثانى تصميم أغلفة الكتب، وتأليف كتب الأطفال. نشأته الصعيدية، وحبه للبساطة والحياة الشعبية لم يؤثر فقط على أعماله الفنية، بل انعكس على حياته كلها. فعندما تدخل إلى بيته تجد قطعا من الأثاث صنعها بنفسه، هذا «كومود» صغير بعدة أدراج، وملون برسوم مصرية، وهذه أريكة من الأرابيسك. عندما ذهبنا له، كان مشغولا فى وضع لمسات أخيرة على لوحة بديعة. سيدة تجلس على شاطئ البحر، ولكن مع التركيز تكتشف أنها «الموناليزا» التى رسمها العبقرى ليوناردو دافنشى، أعاد التونى رسمها على الطريقة المصرية، على سبيل التحية لروح دافنشى. حاولنا الاستفادة من خبرة حلمى التونى فى مجال الفن التشكيلى، وتحدثنا معه فى عدة مناطق، ولكن يبدو أن الحديث عن الذكريات «قلب عليه المواجع»، فلمحنا فى عينيه نظرة حنين إلى تلك الأيام الحلوة عندما كان طالبا فى كلية الفنون الجميلة. الشروق: سألته: هل ترى أن الفرق كبير بين الأيام التى عشتها داخل الكلية، وبين الأيام التى يعيشها أبناء هذا الجيل داخلها؟ حلمى: يجيب: بالطبع.. لأن كلية الفنون الجميلة قديما كانت تشبه كليات الفنون فى كل العالم. وبدأ يتذكر ويحكى: عندما دخلت الكلية، قالوا لنا إن للفنون لغتين فى العالم، الفرنسية والإيطالية، وبالتالى كنا مضطرين لتعلم هاتين اللغتين، إضافة إلى الإنجليزية التى كان يتقنها أغلبنا. كنا نعيش داخلها حياة كاملة، كنت أعمل بجانب الدراسة لكى أعين نفسى على الحياة، فأذهب فى الثامنة صباحا إلى الكلية لتلقى الدروس النظرية، ثم أخرج منها فى الثانية ظهرا وأذهب إلى مقر عملى، وأعود ثانية وأظل داخل الكلية للثانية صباحا، فكانت بيتا ثانيا لى ولزملائى. يكمل: «كان الفارق كبيرا فى كل شىء، وكان سقف الاستنارة أعلى». الشروق: تقصد إلغاء الموديل مثلا من مواد التدريس؟ حلمى: هذا ملمح مهم من ملامح الفنون الجميلة فى هذا الوقت، وكان وجوده يمثل دلالة على عدة أشياء، فعلى سبيل المثال، عندما دخلت الكلية لأول مرة، ورأيت مع زملائى موديلا عاريا، وكنا وقتها مراهقين، أصبنا وقتها بصدمة، ولكن بعد المحاضرة الثالثة، انتهت الدهشة والخجل، وقامت بين الطلبة وبين السيدات اللاتى يقمن بهذه الوظيفة علاقة إنسانية، قائمة على الاحترام والود والعطف على الفقيرات منهن، حيث كان للطالب الحق فى استخدام الموديل لمدة 16 ساعة يوميا على حساب الكلية، فتأخذ الواحدة منهن ورقة من الطالب وتذهب لتأخذ حقها المادى من إدارة الكلية، وكنت أنا لا أتعامل مع الموديل كثيرا نظرا لتخصصى فى الديكور المسرحى، فكنت أعطى الورقة للموديل وكأننى استخدمتها لتأخذ النقود. الشروق: إلغاء الموديل من المواد الدراسية بالكلية كان مؤثرا بشكل كبير؟ حلمى: هذا أمر طبيعى؛ لأن عدم التعرض للموديل، لا يعطى للطلبة فرصة التعرف على الجسم البشرى بالشكل الكافى، مما يعوق عملية الرسم أو النحت المضبوطة. وكانت إدارة الكلية تعلم مدى أهمية تعرف الفنان على الجسم البشرى، فكانت تعين أساتذة متخصصين فى ذلك، وأذكر أن أحد أساتذتنا كان هو نفسه أستاذ التشريح فى كلية طب قصر العينى، وكان يأخذنا إلى مقر عمله، لنشاهد عملية التشريح بأنفسنا، وهو نفسه كان نحاتا.. لم تكن هناك عقد، وعلاقتنا بالموديل كانت إنسانية، ولم أسمع طوال خمس سنوات فى الكلية عن أى فضيحة مثلا بين طالب وموديل، لدرجة أنه كانت أحيانا تحدث حالات زواج بين الأساتذة وبينهن، مما يعنى أنها سيدة محترمة. الشروق: ما تصورك للأسباب التى أدت بنا إلى هذا الظلام؟ حلمى: ورود ثقافات الخليج إلينا من أهم الأسباب، وهناك حكاية رواها لى أحد الأصدقاء الذين سافروا إلى إحدى دول الخليج للعمل بكلية الفنون الجميلة هناك، وعندما طالب بوجود موديل حتى وإن كان غير عارٍ لكى يرسمه الطلبة، رفضت إدارة الكلية، فحاول تجاوز المشكلة وطلب وجود تماثيل يتمرن الطلبة على رسمها، فرفضت الإدارة أيضا معتبرين أنه لا فرق بين التماثيل وبين الأصنام التى عبدها الكفار، وانتهى الأمر إلى أن يتم تصوير التماثيل فوتوغرافيا وينقلها الطالب من الصورة. الشروق: أخذت أكثر من جائزة، وتم تكريمك أكثر من مرة خارج مصر، كيف تشعر وأنت من الذين لم يكرموا بالشكل اللائق داخل مصر، ولم تأخذ إلى الآن أيا من جوائز الدولة؟ حلمى: مبسوط جدا.. بل إننى أخشى أن يتم ترشيحى لجائزة الدولة، فرغم أن علاقتى بوزارة الثقافة ليست سيئة، إلا أننى أرى أن جوائز الدولة باتت مشبوهة، ولو رشحت إليها سيكون من الصعب علىَّ رفضها. الشروق: لماذا؟ حلمى: لأننى لا أستطيع التسبب فى حرج لأحد. الشروق: بما أننا تطرقنا لموضوع جوائز الدولة، والذى يعد شائكا، نريد معرفة وجهة نظرك بشكل أوسع من ذلك؟ حلمى: المسألة لها أبعاد كثيرة، أولا هناك مشكلة فى طريقة الترشيح لهذه الجوائز، فلا يجب أن تكون كل المؤسسات التى لها حق الترشيح تقريبا مؤسسات رسمية، أو على علاقة بالمؤسسة الثقافية الرسمية، ثانيا هناك نقطة اكتشفتها عندما شاركت فى عدة لجان تحكيم لجوائز غير مصرية، وهى أن بعض المرشحين أو المتقدمين للجائزة يملكون مواصفات احترافية فى اقتناص الجوائز، بمعنى أنك تجد أشخاصا يستحقونها، ولكنهم ليسوا محترفين فى عمل الحملات الانتخابية السرية عند المصوتين. النقطة الأهم والتى أخص بها جوائز الدولة المصرية، وهى أنها أصبحت تمنح بالدور، وهذه سياسة «متزعلش حد»، فى محاولة لإرضاء الجميع، وحتى عندما يشكو أحدهم أنه لم يأخذ الجائزة، يقال له «هيجيلك دورك»، لدرجة أن الجوائز تمنح أحيانا للبعض فى سن متقدمة، وقبل وفاتهم بنصف ساعة، ويكمل التونى سخريته «وأرى فى هذه الحالة أن يتم الإعلان عن نتائج الجائزة فى صفحة الوفيات». الشروق: ولكن هناك أسماء محترمة ولا خلاف حولها فازت بجوائز الدولة؟ حلمى: أعتقد أن هذا يحدث لتجميل صورة المانح، أو لأن الفائز كان معارضا أو «طويل اللسان»، وبالطبع تكون غير مقنعة، وينتج عنها فضائح للدولة، مثل الموقف الذى اتخذه الروائى صنع الله إبراهيم، أو كما قال لك الكاتب علاء الأسوانى من قبل إنهم اتصلوا به للموافقة على الترشح ولكنه رفض. ثم إن هناك عدة نقاط يجب وضعها فى الاعتبار عند الحديث فى هذه المسألة، منها مثلا أن توفير حياة كريمة للمبدعين يحميهم من الفساد الذى طال بعضهم، سواء مثقفى السلطة أو غيرهم، لأنك لكى تكون مبدعا يجب أولا أن تكون حرا، ولا تتداخل مع السلطة السياسية، وأنا كما قلت لك من قبل علاقتى بوزارة الثقافة ليست سيئة وأعرف أن الكثيرين من المثقفين الذين يعملون بها فى منتهى الاحترام، ولكنهم لا يستطيعون أن يتصدوا للفساد الذى بداخلها لأنهم فى حاجة إلى عمل يكفل لهم مصدر دخل جيدا. وأعتقد أن كثيرين منهم يشاركوننى رأيى فى مسألة الجوائز، ولكن للأسف، ملأ الماء فمهم، ولا يسمح وضعهم بقول رأى حر وكامل. وأنا شخصيا أعذر كثيرين منهم لاضطرارهم أخذ مواقف ضد قناعاتهم الحقيقية.. يضيف «ولو كنت حاكما لهذا البلد، فلم أكن لأنام، بل إننى كنت شعرت بالإهانة، من أننى لا أستطيع رفع شأن الثقافة فى بلدى». وأرى أنه لن ينصلح حال الجوائز فى مصر إلا بالاستغناء تماما عن موظفى الحكومة، لكى يبنى اختيار الفائز على الكفاءة الحقيقية وليس على المجاملات. معارض.. وجوائز حصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة تخصص ديكور مسرحى عام. أقام العديد من المعارض المحلية والدولية. عاش بالقاهرة وبيروت. ويعد من أبرز الفنانين فى مجال تصميم الكتب والمجلات فى العالم العربى حيث بلغ عدد أغلفة الكتب التى رسمها أكثر من ثلاثة آلاف كتاب غير المجلات التى رسم أغلفتها. فاز بجائزة سوزان مبارك فى رسم كتب الأطفال ثلاث مرات. فاز بعدد من الجوائز الدولية هى: جائزة اليونيسيف عن ملصقة للعام الدولى للطفل عام 1979، وجائزة معرض بيروت الدولى للكتاب لمدة ثلاث سنوات متتالية بين عامى 1977و1979، جائزة معرض بولونيا لكتاب الطفل عام 2002 إضافة لميدالية معرض ليبرج الدولى لفن الكتاب، الذى يقام مرة كل ست سنوات.