الطريق الصاعد إلى طاحونة البابا كيرلس البطريرك الراحل لا يستغرق سوى بضع دقائق بعد الخروج من محطة مترو الزهراء، لكنه فى هذا اليوم استغرق أكثر من ساعة، مع بداية موسم توافد مريدى البابا كيرلس على كنيسته بمصر القديمة «الطاحونة» والذى يستمر حتى نهاية الصوم الكبير فى منتصف أبريل، فمثله مثل مختلف شوارع مصر القديمة لا يحتمل الطريق الضيق غير الممهد صخب عربات النصف نقل عندما تتحول لوسيلة لنقل البشر. فى الطريق تلتقى الكثير من العيون البريئة، التى اعتادت أن تنظر إلى العالم من خلف شبابيك البيوت، وجوه صعيدية وأخرى قاهرية وإن كانت أقل عددا، فطاحونة كيرلس فى النهاية ليست سوى مبنى حجرى قضى فيه البطريرك بعض سنوات حياته عندما كان راهبا باسم مينا المتوحد، أما ضريح البابا كيرلس الفخم فى دير مارمينا بالكينج ماريوط بالإسكندرية فيظل هو المكان الأصلى للاحتفال لكنه صعب الوصول على فقراء القاهرة والصعيد. هكذا أصبح مولد كيرلس مولدين أحدهما لسكان وجه بحرى فى الإسكندرية حيث الضريح والدير الغنى الفخم بمبانيه الجديدة الخرسانية، ومولد آخر فى زهراء مصر القديمة الفقيرة، حيث الطاحونة المبنية من الطوب اللبن الفقير ككل المبانى المحيطة. مكان صغير وشوراع ضيقة، تماما مثل أغلب طرق المنطقة التى تنتهى إلى دار السلام حيث التجمع العشوائى الأكبر فى مصر القديمة، لكن طاحونة البابا كيرلس الفقيرة، التى اختار أن يعيش فيها، لم تكن يوما مجرد مكان «لخروجه» جماعية ذات ملامح دينية، فهنا رسم الراهب مينا المتوحد (البابا كيرلس) ملامح جديدة للكنيسة لا تزال تحددها حتى الآن. ففى هذه الطاحونة عاش الراحل الأب متى المسكين وتلاميذه فى حماية أبينا مينا المتوحد، عندما كان المسكين مطرودا من ديره، مطاردا من البطريرك الاسبق، فى خمسينيات القرن المنصرم، وهنا كان رجال الكنيسة الحاليون مجرد تلاميذ لأستاذهم المسكين وأستاذه مينا المتوحد (البابا كيرلس). ومن خلال حماية المتوحد للمسكين وتلاميذه فى طاحونته تمكن هؤلاء من الاستمرار فى الكنيسة إلى أن جاء منهم البطريرك الحالى البابا شنودة الثالث. صحيح أن معظم الكنائس الآن، والتى يرأسها من كانوا تلاميذ الطاحونة فى الماضى، لم تعد جذابة بهذا الشكل للفقراء فملامحها فى الأغلب لم تعد تتوافق معهم، ولم تعد ملجئا للمطاردين من رجال البطريركية، لكن الطاحونة ذاتها حافظت على طابعها الأول فهى، على الأقل، لاتزال جذابه للناس. ملامح الكنيسة الجديدة التى بدأها المتوحد حينما احتضن فى طاحونته شباب حركة مدارس الاحد وأستاذهم المسكين لم تتم، على ما يبدو، كما تمناها. فحياته التى اختار أن يقضيها بعد رسامته بطريركا، فى مقره المتواضع بالكنيسة المرقسية القديمة بكلوت بك، تتناقض مع ما آل إليه حال تلاميذ تلميذه المسكين الذين احتضنهم فى الطاحونة منذ نصف قرن، وربما يكون اختياره لاستكمال حياته فى المقر الفقير المفتوح على الشارع هو سبب استمرار حب الفقراء له ممن عايشوه إلى الآن. 38 سنة على رحيل كيرلس لم تكن لتمنع محبيه من التدافع لدق الأوشام على أجسادهم فى مولده، وأى بركة سينالونها أكثر من أن ينطبع الوشم فى أجسادهم إلى جوار طاحونته؟. وخذات الإبر تدق أوشام المتوحد، لم تكن مرهقة، لأجساد أحبائه ومريديه الذين قضى الآلاف منهم ليلتهم بكنيسته بمصر القديمة، فقد اعتاد كبار السن منهم أن يسهروا الليل مع كيرلس فى حياته لقضاء الوقت فى الإنشاد الدينى حتى صباح اليوم التالى، لكن رحيل كيرلس منذ أربعة عقود لم يمنع الكثيرين منهم من الحلم فى استعادة الماضى، الذى يبدو لهم ماضيا سعيدا، تماما كما يفعلون فى أغلب ذكريات حياتهم. وبالرغم من عدم اعتراف الكنيسة رسميا بقداسة البابا كيرلس البطريرك الراحل، لعدم انقضاء المدة اللازمة لذلك وهى خمسون عاما، فإن كيرلس سيظل بالنسبة لهؤلاء «رجل المعجزات» و«شفيع الطلبة». صحيح أن أحدا من الباحثين لم يجمع آلاف الرسائل التى يلقيها مريدو المتوحد من بين الأسوار الخشبية المحيطة بالحجر غير المنحوت الذى اعتاد كيرلس أن يصلى عليه، لكن مضمونها يمكن أن نعرفه من خلال ما أفصح عنه أصحابها فى الكتب التى تضم شهادات محبيه عنه. رسائل مريدى كيرلس، لا تختلف كثيرا عن رسائل مريدى الإمام الشافعى، فجميع الأولياء فى ذلك سواء، مهمتهم تحقيق العدالة للفقراء الذين يتعثر عليهم تحقيقها بأنفسهم. لكن مريدى كيرلس عادة ما يكون لهم مطلب آخر هو النجاح فى الامتحانات، حيث شاع عن المتوحد أنه كان يحب تقديم الصلوات من أجل نجاح الطلبة فى حياته، هذا إلى جانب الأحلام الأخرى المعهودة، فهذه بصحبة خطيبها وذلك بصحبة فتاته، بعيدا عن رفض الأهل المعتاد، فهم ذاهبون إلى رحاب المتوحد، يتمنون إتمام الزواج وتلك السيدة هناك، تندر أن تسمى ولدها مينا أو كيرلس، لو تشفع لها المتوحد فحملت. شموع المتوحد، التى يندرهها مريدوه لا تنطفئ طوال العام لكنها لا تكون أبدا بمثل هذا البريق إلا حينما يحل موسم الصعود إلى المتوحد.