تجرى غدًا الانتخابات فى السودان بينما تتخبط البلاد مع أسئلة حول الاستفتاء واستقلال الجنوب وترسيم الحدود، وقبل كل شىء، استقرار الجنوب. يقف السودان عند مفترق سياسى عشية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية التى ستجرى فى الحادى عشر من أبريل 2010. ومع اقتراب موعد الانتخابات، بدأت أحزاب المعارضة والحركة الشعبية لتحرير السودان تهدد بمقاطعة الانتخابات بسبب مزاعم بالتزوير. وقد تضع هذه المقاطعة كل من الانتخابات والاستفتاء حول استقلال الجنوب (المقرر عقده فى يناير 2011) فى حالة خطيرة من عدم اليقين. ومع ذلك فإنه من المرجح أن تتراجع الحركة الشعبية لتحرير السودان عن التهديد بالمقاطعة، وهذه الخطوة يمكن أن تقوض لها مصلحة أساسية فى إجراء الاستفتاء على الاستقلال فى وقته المحدد. وإذا كان الأمر كذلك، فللمرة الأولى منذ عقود، سيتوجه مواطنو الدولة الأكبر فى أفريقيا إلى صناديق الاقتراع. وفيما يُرجَّح أن يحتفظ الرئيس عمر البشير بالسلطة، قد يتطلب الأمر جولة ثانية من التصويت الحاسم للفوز بالغالبية المطلقة المطلوبة. وعلى الرغم من كل الشوائب التى تعانى منها الديمقراطية فى السودان، من غير المرجح أن تكون الانتخابات الجديدة شبيهة بتلك التى تحصل فى غينيا الاستوائية حيث يصوّت 98.5٪ من الناخبين للرئيس المنتهية ولايته، ويعرف الجميع النتائج قبل أشهر من عملية الاقتراع. لكن فى جوبا، عاصمة الجنوب، الانتخابات هى عمليا حدث من دون أهمية، وتُعتبر مجرد إجراء شكلى على الطريق نحو الاستفتاء حول استقلال الجنوب فى يناير الثانى 2011، والذى يعتبر أكثر أهمية بالنسبة إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان التى تتخذ من الجنوب مركزا لها. فالانتخابات الوطنية هى مجرد جزء من اتفاق السلام الشامل الذى تم بوساطة أمريكية؛ آخر تنازل فى الطريق نحو الاستفتاء. لن تُقاطع النخب السياسية الجنوبية فى الحركة الشعبية لتحرير السودان والأحزاب الأصغر الانتخابات الوطنية، لكنها ستركز كل مواردها ومناوراتها السياسية على الفوز بالمقاعد التى تأمل هذه النخب فى أن تقود إلى تشكيل حكومة دولة جنوبية مستقلة فى أقل من عام. انتخابات الرئاسة والحكايات فى الجنوب والبرلمان الذى يتخذ من جوبا مقرا له، مهمة للغاية فى هذا السياق. المنطق السياسى واضح هنا؛ فبما أن الاستقلال هو فعل إيمان فى جوبا، فلماذا يزعجون أنفسهم بانتخابات لن تدوم مفاعيلها أكثر من عشرة أشهر، فى الوقت الذى ستولد فيه دولتهم الخاصة التى يتوقون إليها منذ وقت طويل؟ لهذا السبب، عقد سالفاكير، رئيس حكومة جنوب السودان شبه المستقلة، العزم على الاحتفاظ بمنصبه فى حين أُرسِل ياسر أرمان لتمثيل الطموحات الرئاسية الشكلية للحركة الشعبية لتحرير السودان فى الخرطوم. لكن، إذا ما كان الاستقلال يُعتبر محتوما فى جوبا، فكيف يُنظَر إليه فى الخرطوم؟ هل حزب المؤتمر الوطنى الحاكم بزعامة البشير مستعد للتعايش مع جنوب مستقل يضم أكثر من ثلثى الاحتياط النفطى للبلاد؟ وماذا عن الأحزاب الشمالية الأكثر قومية أو ميلا نحو الإسلامية التى قد تكتسب نفوذا بعد الانفصال؟ يعتبر عدد كبير من الخبراء فى الشأن السودانى الذين يدقون ناقوس الخطر حول استقلال الجنوب منذ توقيع اتفاق السلام الشامل العام 2005، أن التعايش مستحيل، ما يضع الشمال والجنوب فى مسار تصادمى قد يؤدى إلى تجدد الحرب الأهلية. ووفقا لهذه المدرسة الفكرية، سيضع حزب المؤتمر الوطنى عوائق إجرائية ويستخدم ذرائع أخرى لإرجاء الاستفتاء إلى مالا نهاية، ما سيدفع بالحركة الشعبية لتحرير السودان إلى إعلان الاستقلال من جانب واحد. وهكذا سترى دولة جديدة النور، لكنها ستكون عُرضة إلى خطر هجوم وشيك من الشمال. لكن هذا السيناريو ليس حتميا البتة. فثمة أدلة بأن الخرطوم وبلدانا أساسية أخرى فى المنطقة مثل مصر، ليست مستعدة وحسب للتعايش مع جنوب مستقل (ولو بحذر)، بل إن هذا ما تتوقعه الآن توقعا تاما. لم يعد السؤال المطروح: هل ستولد دولة جديدة فى الجنوب العام المقبل؟ بل هل ستعيش بسلام مع جارتها وتكون دولة مستقلة قابلة للحياة، لا منطقة موضوعة تحت حماية المجتمع الدولى؟ صحيح أن السلام شرط مسبق كى تكون الدولة الجديدة قابلة للحياة، لكنه ليس ضمانة. فالدولة المائة والثالثة والتسعون فى العالم (بحسب تصنيف الأممالمتحدة) التى لا منفذ لها إلى البحر وذات الحكم السيئ (حتى الآن) والغنية بالموارد والمعرضة إلى نزاعات، ستولد مع كل الخصائص التى نجدها عند الدول الأكثر هشاشة فى العالم التى حددها عالم الاقتصاد فى جامعة أكسفورد بول كولييه. ومع اعتماد الحكومة على النفط للحصول على 98٪ من عائداتها، وفى غياب شبه كامل للبنى التحتية خارج جوبا، من الواضح أنه سيكون على المانحين تحمّل أعباء معظم الفواتير التى قد تصل إلى بلايين الدولارات سنويا دون غرق الحكومة. ومع ذلك، من غير المحتمل أن تتجدد الحرب الأهلية السنة المقبلة، على الرغم من انعدام الثقة بين الخرطوموجوبا. لقد تعرض اتفاق السلام الشامل إلى انتكاسات عديدة منذ العام 2005، لكنه لم ينهر، مُظهرا قدرته على الصمود تحت الضغوط. وعلى الرغم من ذهنية الربح والخسارة وسياسة حافة الهوية اللتين اتسم بها تطبيق الاتفاق طوال سنوات، قدّم الجانبان فى اللحظات الحاسمة تنازلات صعبة لإبقاء الاتفاق حيا. فقد رأى الطرفان أن فوائد التقيد بالاتفاق، ولو كانت مؤلمة فى معظم الأحيان، تتفوق على تكاليف انهياره. وتريد حكومة البشير إحكام قبضتها على السلطة وتطبيع العلاقات مع الغرب إن أمكن؛ أما بالنسبة إلى جوبا فلطالما كان الاستقلال هو المكافأة. هذه النتائج واضحة للعيان الآن، ولا تُقصى واحدة منها الأخرى. غير أن النجاح يتطلب جولة أخرى من التسويات، ولاسيما فى ما يتعلق بعائدات النفط. سوف يكون من الضرورى الإبقاء على شكل معين من تقاسم العائدات النفطية من أجل التخفيف من وطأة التداعيات الاقتصادية لانفصال الجنوب عن الخرطوم. ويتبين الآن أن جغرافيا النفط فى السودان لا تخضع فى تفكير أى من الجانبين إلى لعبة الربح والخسارة، فالاحتياط الرئيسى موجود فى الجنوب، فى حين أن الأنابيب ومعامل التكرير موجودة فى الشمال. وسوف يكون على جوباوالخرطوم أن تتعاونا تحقيقا لفائدة الطرفين. وسيسهل هذا الواقع، إلى جانب الضغوط الدبلوماسية على حكومة جنوبية ترغب فى الحصول على اعتراف دولى، التوصل إلى تسوية تحافظ على تدفق بعض العائدات النفطية إلى الخرطوم (إنما على الأرجح أقل من نسبة الخمسين فى المائة التى تحصل عليها حاليا). يجب أن تبدأ هذه المفاوضات جديا الآن. فهى لا تستطيع الانتظار حتى يناير 2011، عندما تكون مرحلة الانتقال إلى الدولة الممتدة لستة أشهر قد انطلقت، مع كل الإجراءات التى تشملها من ترسيم للحدود إلى الحصول على الاعتراف الدبلوماسى. يجب أن تحصل الخرطوم على تضمينات بأن استقلال الجنوب لن يتم على حسابها، سواء على الصعيد الاقتصادى أو الدبلوماسى. وفى هذا الإطار، يتعين على الولاياتالمتحدة أن تؤدى دورا حساسا، ولو صعبا من الناحية السياسية، عبر اتخاذ إجراءات ملموسة نحو نزع العقوبات وتطبيع العلاقات إذا تمتعت الانتخابات بالصدق نسبيا وحصل الاستفتاء فى الموعد المحدد. ومن شأن هذه الجزرة الدبلوماسية الممدودة منذ سنوات أن تمنح الخرطوم محفزات إضافية لقبول استقلال الجنوب. لكن، حتى لو تحقق هذا السيناريو السلمى نسبيا فى الأشهر العشرة المقبلة، ليس واضحا على الإطلاق بأن الجنوب المستقل حديثا سيكون دولة قابلة للحياة تتمتع بالاكتفاء الذاتى. ويخشى حلفاء جوبا الطبيعيون (بما فى ذلك الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى وجيرانها فى المنطقة مثل كينيا وإثيوبيا) أن يُصبح جنوب السودان الدولة العاجزة التالية فى أفريقيا، ناهيك عن تحوله مصدر إلهام للحركات الانفصالية فى مختلف أنحاء القارة، بدءا بمناطق أخرى فى السودان مثل دارفور. فالتنافس على الموارد النادرة يؤلب أصلا المتحدات والمجموعات العرقية بعضها على بعض، ما أدى إلى تجاوز عدد الضحايا فى الجنوب أعداد الذين سقطوا فى دارفور العام الماضى. وبحلول يناير 2012، ربما لن تحذر عناوين الصحف الرئيسة حول السودان من تجدد الحرب بين الشمال والجنوب، بل من خيبة الأمل المتزايدة، والخصومات العرقية، والتململ داخل الجنوب نفسه.