يعلن الرئيس البشير تحديه لقرار المحكمة الجنائية الدولية، يجرى إلى إريتريا ومصر المجاورتين. ويصر على حضور القمة العربية فى الدوحة. ولكن فجأة تصدر هيئة علماء السودان فتوى بعدم جواز سفر الرئيس فى الظروف الحالية؛ خوفا من «كيد الأعداء وتفويت الفرصة عليهم». وحتى كتابة هذه السطور لم يعلن البشير بعد قراره: هل يغادر إلى الدوحة أم سيغير رأيه؟. من يصنع القرار بالضبط فى السودان؟ وكيف يتم صنعه؟ كل ما نراه هو نوع من التصعيد كأننا فى مواجهة شخصية بدلا من سياسة عقلانية لإدارة الأزمة. crisismanagement إن سياسة حافة الهاوية و«الجنائية الدولية تحت الحذاء» التى يتبعها البشير تجلب الضرر لبلاده وحتى للصورة العربية دوليا. باختصار شديد وضعت حكومة البشير نفسها فى مأزق، وقد تتورط الدول العربية والأفريقية فى هذا المأزق معها، وبالتالى يصبح الجميع هنا فى نشاز مع فكر عالمى مسيطر عن أهمية حقوق الإنسان، نبدو فيه نحن العرب كما لو أننا لا نفهم هذه الشرعية الدولية الجديدة، بل وخارجون عليها بدلا من تنفيذها. والكلام حاليا عن ضعف حجة المحكمة الجنائية الدولية أو حصانة رئيس الدولة أو حتى تسييس الموضوع بأسره قد يكون سليما فى الكثير من الأحيان، ولكنه متأخر الآن، لأن هذه المعركة كان يستلزم إدارتها فى وقتها، أى قبل صدور قرار المحكمة، وقد فشلت حكومة السودان فى ذلك. كما فشلت فى حل أزمة دارفور. وهذا هو بيت القصيد. فعلى عكس المفهوم الشائع، السودان بموقعه الإستراتيجى بين أفريقيا العربية وأفريقيا الزنجية بلد غنى، ومع ذلك فسكانه الذين يقتربون الآن من الأربعين مليونا فى حالة اقتصادية واجتماعية يرثى لها، تتقاسمهم الولاءات العرقية الحادة بين شمال عربى مسلم وجنوب زنجى أفريقى. أوشك هذا الانقسام جنوب/شمال بما أدى إليه من حرب أهلية أن يودى بالدولة السودانية فى النهاية. توصل الطرفان خلال مفاوضات مضنية فى كينيا إلى اتفاق سلام على مراحل بين 2002 و2004، ولكن هذا الاتفاق لم يضع حدا للمشكلة السودانية الأساسية: مشكلة تفكك الدولة وغياب إستراتيجية حكومية لمواجهتها. فظهرت المشكلة مرة أخرى، ولكن هذه المرة فى غرب البلاد: فى دارفور. بالرغم من بعض الاختلافات مع مشكلة الجنوب، تتجاور فى دارفور 30 جماعة إثنية عرقية، إلا أن الانقسام الأساسى لايزال من ناحية بين القبائل الرحل الناطقين بالعربية، ويتركزون فى شمال وجنوب الإقليم، ومن ناحية أخرى، ثلاث جماعات عرقية من الفلاحين الأفريقيين يستوطنون وسط الإقليم. ولكن على عكس انقسامات الجنوب مع شمال السودان، فإن الجماعات المختلفة فى دارفور يختلط بعضها ببعض وحتى تتزاوج بحيث إن الحدود الإثنية العرقية تتضائل وحتى قد تختفى فى بعض المناطق. لماذا إذن إزدادت المشكلة حدة حتى وصلت إلى محاكمة البشير، رئيس دولة عضو فى الجامعة العربية، وبالتالى أصبحنا كعرب خصما مع الجنائية الدولية فى مواجهة صفرية zerosum، يا إما غالب أو مغلوب؟ السبب الرئيسى هو سياسة الخرطوم التى استمرت فى اللعبة الاستعمارية القديمة «فرق تسد» لكى تسيطر على الإقليم، مما أوجد عدم ثقة من جانب الجماعات الأفريقية تجاه الخرطوم. ولما اشتدت عدم الثقة هذه عندما بدأت تسوية مشكلة الجنوب وتجاهل دارفور، بدأت حكومة الخرطوم فى التصعيد والتواطؤ مع القبائل العربية، الجنجاويد ،التى سلمتها السلاح لمهاجمة القبائل الأفريقية والتنكيل بها، وإحراق قراها واغتصاب نسائها. تقول الإحصاءات التقريبية إنه تم قتل نحو نصف مليون نسمة، ونزح الكثيرون إلى دولة تشاد المجاورة، ليصبح فى النهاية 3.5 مليون من سكان الإقليم، البالغين 6 ملايين، فى حالة إنسانية كارثية. وقرار التصعيد بطرد معظم منظمات الإغاثة الدولية مع عجز موارد الخرطوم المادية والتنظيمية سيؤدى بلا شك إلى تفاقم هذه الكارثة الإنسانية، ليس فقط للسودان ولكن للدول المجاورة أيضا، (حاليا تشاد ولكن قد تنجر إليها دول مجاورة مثل ليبيا أو مصر). نحن إذن أمام أزمة دولية وكارثة إنسانية بكل المقاييس، وليس مواجهة شخصية على عكس ما يحاول أن يصوره البشير. أكدت لى مقابلتى مع بعض موظفى الجامعة العربية أن الموقف فى دارفور كان من السوء منذ عدة سنوات بحيث إن الجامعة أرسلت بعثة لتقصى الحقائق فى 2004، والتى عادت لتؤكد الكارثة الإنسانية. ولو استمرت الجامعة العربية فى هذا النهج وتعاملت بفاعلية مع هذا الموقف الكارثى، لتجنب السودان والعرب بأسرهم تدخل الجنائية الدولية والربط بين نظام حكم عربى وتهمة الإبادة البشرية على مسمع من العالم بأسره. قد نستمر فى العالم العربى فى تأييد الرئيس البشير بدافع «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، ولكن هناك أربع نقاط يجب أخذها فى الحسبان: كيف نستمر فى مهاجمة شرعية وعمل الجنائية الدولية، ثم نحاول التعامل معها بعد ذلك فيما يتعلق بجرائم الحرب الإسرائيلية، ألا يمكن أن يُوجه لنا نقد «إزدواجية المعايير» الذى نتهم به الآخرين؟ ما التأثير على علاقتنا بالدول والشعوب الأفريقية جنوب الصحراء إذا وقفنا تماما دون أى تحفظ إلى جانب رئيس عربى متهم بالتنكيل بسكانه الأفريقيين؟ لقد قام مفكر سودانى وأحد وزراء الخارجية السابقين بتحليل نمط النخبة الحاكمة فى بلده، وكان تقييمه سلبيا لنمط هذه النخبة، كما يظهر فى عنوان كتابه الذى نشر باللغة الإنجليزية عام 1985: الحكومة التى يستحقونها: دور النخبة فى تطور السودان السياسى؟ «The Government They Deserve: The Role of the Elite in Sudan's Political Evolution»، ألا يحثنا هذا على أن ننظر للبشير بنفس الطريقة النقدية؟ لقد قفز الجنرال البشير من الجيش إلى الحكومة فى 1989، أى منذ عشرين عاما. هل حان الوقت لتقييم فترة حكمه قبل إعطائه التأييد فى صورة شيك على بياض؟ ألا تكون الأولوية إنقاذ السودان موحدا ومحترما قبل إنقاذ الرئيس؟