كثيرا ما يتسمر البعض منا أمام شاشة التليفزيون يحملقون طويلا ويمضون ساعات من أوقاتهم فى متابعة برامج ما يسمى ب«الطب البديل». تلك المتابعة المحمومة جعلت الفضائيات تنهال كل يوم على مسامعنا وأبصارنا بأشخاص ما أنزل الله بهم من سلطان يدعون أن لديهم شهادات متخصصة فى علاج السمنة والنحافة ويجدون الكثيرات من زبائنهم من النساء والفتيات الشغوفات بمتابعة مستجدات اللياقة والرشاقة، ومنهن من هى بحاجة حقيقية إلى ذلك ولكنها تضل الطريق الحقيقى للعلاج الصادق والمجدى. وهناك من المعالجين من يدعون أنهم يعالجون جميع أنواع الأمراض بخلطة سحرية سرية من الأعشاب الطبيعية وكثير من المرضى وكبار السن يتابعون تلك الإعلانات والبرامج بل ويصدقونها ويسيرون على منهاجها. بين دفتى هذا الكتاب القيم الذى يقدمه لنا د.محمد المخزنجى مجموعة من المقالات التى كان كتبها فى مجلة «العربى» الكويتية تحت باب للصحة والرياضة. وكما هو معلوم فإن المخزنجى طبيب نفسى كان قد حصل على دبلومة اختصاص مكثف فى العلاج بالإبر الصينية ليستعين بها فى علاج الاكتئاب حصل عليها من أوكرانيا لتكون إحدى سبل العلاج النفسى بالطرق غير الدوائية، كما أن رسالته التى منح عليها درجة الدكتوراه كانت تدرس أيضا استخدام طرائق أخرى للعلاج بخلاف ما هو متعارف عليه من العقاقير الكيميائية، فلما اتجه إلى الكتابة وجد فى ذلك فرصة سانحة لاستعادة حبه القديم لهذا الحقل الذى لم يتنبه الكثيرون لأهميته وتركوه فريسة للمدعين ممن يروج لهم الإعلام ويعطيهم شرعية الظهور بادعاءاتهم الكاذبة على، وكثيرا ما كنت تثير تلك الجرائم حفيظة المخزنجى وتجعله ينتفض غضبا لما يراه عبثا لا يمت للطب البديل بصلة. ومن ثم راح يكتب ليبين ماهية هذا النوع الفريد من الطب ويستكشف طرائقه ويعرض سبله وفوائده ربما ساهم ذلك فى رسم صورة حقيقية له بثا للوعى الحقيقى به وقطع الطريق على المدعين باسمه. جمعت من قبل هذه المقالات فى كتاب نشرته العربى عام 2001م تحت عنوان «الطب البديل مدواة بلا أدوية»، ولا يخفى المخزنجى سرا بأن ثريا عربيا قد عرض عليه من قبل أن يمول له مركزا للعلاج بالطرق التى أتى على ذكرها فى كتابه،إلا أنه كان وقتذاك مولعا بالتأليف والكتابة. وها هى دار الشروق تصدر طبعة جديدة منه مزيدة ومنقحة تضم معظم المقالات مع إدخال بعض المداخلات الطبية. نقص طب الحضارة الصناعية يكشف لنا المخزنجى أن طب الحضارة الصناعية الطب الغربى الذى تنبهر به دول الجنوب وتلتف حوله بل وحول ما قد عفا عليه الزمن منه، والذى يعتمد بالأساس على العلاج بالعقاقير الكيميائية الدوائية التى قد ثبت خطأ الوقوف عندها كتوجه وحيد للتعامل مع الأمراض، فهى تسبب فقد الفاعلية وتثبيط الجهاز المناعى، وقد تقوم بقمع المرض على المدى القصير إلا أن لها آثارها الجانبية التى تمتد لتضر على المدى البعيد دون أن تقتلع المرض من جذوره. تلك الوصفة الغربية التى يأخذها الجنوب على علاتها فرحا بها وبما أحرزته من تقدم باستخدام التكنولوجيا الحديثة التى دائما ما نحسد الغرب المتقدم عليها تلك الوصفة تهمل الجانب الروحى والنفسى للمريض، كذلك الجانب الاقتصادى نظرا للتكاليف الباهظة التى يتكلفها هذا النوع من العلاج، وكذلك ما ينبعث عنه من تلويث للبيئة ومخاطر على المدى البعيد تحد من كفاءة الإنسان وهو العنصر البشرى فى العملية الإنتاجية. ومن ثم ومع ظهور الوجه الآخر لطب الحضارة الصناعية، كان الصعود الحثيث لطب آخر شمولى المنظور لا يتعامل مع الإنسان بوصفه ترسا فى آلة إذا عطب منه جزء أو تعطل نضع له مسمارا هنا أو «صامولة» هناك فيعود ليعمل من جديد، بل يرى الإنسان ككون مصغر يسبح فى أكوان أكبر منه، ولهذا الإنسان مكونان: مادى ومعنوى، الجسد والروح لا انفصام بينهما فى حالتى المرض أو الصحة. وعليه فإن العلاج الصحيح يتأتى باحترام هذا الكون المصغر بشقيه الروح والجسد، وكذلك احترام بيئة الكون الأكبر من حوله. طب نابع من تراثنا كانت الحاجة ماسة إذا لطب لا نستطيع أن نسميه بديلا وإنما مكملا أو موازيا للطب الغربى الذى لا نستطيع أيضا أن نغفل أهميته وأنه أفضل ما توصلت إليه البشرية النابهة فى العصر الحديث بما أحرزه من تقدم، إلا أننا أيضا لابد أن نعترف بنقصه وأنه بحاجة لسبل أخرى تكمل ما يقوم به من دور، فنقدم بذلك نظرة كلية لا تقتصر على العلاجات الدوائية والعقاقير الكيميائية بوصفها الملاذ الوحيد للعلاج. فالطب المكمل يقدم علاجا بالطرق الطبيعية وباستخدام مواد الطبيعة البكر من نباتات ومعادن ومياه، ويستنفر الكامن من طاقات الجسد بصورة طبيعية كالتنفس وتركيز الفكر والتريض والاسترقاد تحاشيا لحالة المرض والحصول على الصحة التى هى معافاة للروح والجسد معا. هذا النوع من الطب ذو مراجع شرقية قديمة،ويعود بجذوره لحضارات الشرق، وحتى يستفيد العقل الغربى منه نقله إليه واخترع له اسم «علم المناعة النفسى العصبى» يدرسون فيه الطب البديل بمفاهيم الطب المعاصر المتعلقة بالنفس والأعصاب والجهاز المناعى. تنويم الشعوب يرسم المخزنجى خطا ناظما بين التنويم المغناطيسى كأحد سبل العلاج النفسى وبين الديكتاتورية التى تعمد إلى نوع من الكاريزما تفقد معها الشعوب قدرتها على الفعل. كذلك ما رآه حينما كان مقيما فى روسيا، فقد رأى فى عدة أفلام تسجيلية قدرة البعض على تنويم الحيوانات. تعددت التفسيرات فى ذلك واختلفت إلا أن ما اجتمع عليه من أسباب لتنويم الحيوانات كانت ما تتعرض له من «خوف»، وإلغاء الإرادة، والكف عن الحركة، والركود إلى السكون، والثبات فى المكان. وبتمعن قليل فى تجربة النازى «هتلر» الذى غازل طموح الناس بانتشالهم من عثرتهم إبان الحرب العالمية الأولى وتضميد جراحهم استعمل قدراته الخطابية وأفكاره العنصرية من تفوق الجنس الآرى وغيرها فساقهم إلى الهلاك، حتى العلماء منهم سخروا علمهم لصالح أفكاره الجنونية، وتكررت التجربة مع «موسولينى» الفاشى فى إيطاليا بتشابه كبير فى الآليات، فهؤلاء المجانين قاموا بتنويم شعوبهم وإحكام قبضتهم عليهم بفعل الخوف وشل الإرادة واستعدادهم أيضا لتقبل ما يوحى به إليهم من مجد قادم هو لهم على أيدى قادتهم المجانين. ومن ثم يقبل الشعب أن تسلب إرادته الحرة فى الاختيار والانتقاد والمعارضة وينقلب إلى محض دجاجة تجمدت أطرافها، أو إلى عصفور شله الخوف. فهل كانت جموع الجماهير التى تدفقت فى شوارع مصر إبان الهزيمة الساحقة فى 67 إثر خطاب عبدالناصر الذى تنحى فيه مدفوعة بفعل ذلك التنويم لتتمسك بقادتها الذين قادوها إلى الهزيمة؟!!. لقد فتح لنا المخزنجى خزائن عالم الطب المكمل وفتح لنا آفاقا جديدة نحو اكتشاف تراثنا المفقود، فالانقياد والانبهار وراء الآخر سهل، والطريق نحو طب آخر نابع من جذور ثقافتنا صعب وطويل ولكنه ليس بالمستحيل.. وقد حمل على عاتقه كشف هذا العالم إلينا ليضع بين أيدينا كتابا جديرا بالقراءة.