«أنا شفت الموت بعينى!» لم يقصد الحاج رضا المبالغة فى وصف ما تعرض له خلال النوبة القلبية الأخيرة التى أودعته حجرة العناية المركزة قبل نحو شهرين، إنما كان يعبر عن شىء حدث له خلال دقائق معدودة توقف خلالها قلبه، ليفارق الحياة ثم يعود إليها بعد عدة صدمات كهربائية لتنشيط عضلة قلبه. «مروا على الأربع دقائق كأنها ساعة رأيت فيها ما لا تصدقينه» يؤكد الحاج رضا ذلك مترددا فى سرد ما رآه خلال لحظات موته المؤقت، فقد أخبره أحدهم أن هذه الأشياء تكون رؤية من الله أو شيئا أقرب إلى «الكرامة»! فلا يصح أن يخبر به كل شخص، وبعد إلحاح قال الرجل الذى تجاوز الستين بعامين: «كأننى أرى أهلى بعد وفاتى! أراهم وهم يبكوننى ويستعدون لجنازتى، كأننى فى سقف الغرفة وأرى كل من فيها». ويواصل: «شعور بأننى خفيف جدا، شعور جميل لكننى كنت بداخلى أشفق على أسرتى وأود العودة إليهم حتى لا يحزنون». تجربة الحاج رضا تضاف إلى قائمة ضخمة لحالات ذاقت الموت لوقت قصير ثم عادت إلى الحياة، فما يقارب واحد من كل عشرة أشخاص ناجين من الأزمات القلبية الحادة عاش تجربة مشابهة، وفى كل يوم يقترب 800 شخص من الموت فى الولاياتالمتحدة وحدها أو يموتون لدقائق ويعودون بعدها إلى الحياة. وهو ما يعرف إعلاميا باسم Cheating Death أو (خداع الموت) ويعرف أيضا باسم Near Death أو (الاقتراب من الموت)، ويقصد به النجاة من موت محقق بسبب حادثة أو مرض قاتل أو التعرض لموت مؤقت ثم العودة إلى الحياة. ومنذ السبعينيات، بدأت الظاهرة تأخذ موقعها من الرصد والتحليل، لتأخذ مسمياتها الحالية من الطبيب والمعالج النفسى الأمريكى رايموند مودى الذى أصدر عام 1975 كتابه «حياة ما بعد الحياة»، عرض فيه تجارب الموت المؤقت التى عاشها عشرات الأشخاص، وقد تصدر لفترة طويلة قائمة الكتب الأكثر مبيعا فى الولاياتالمتحدة. بينما مات الحاج رضا فعليا لدقائق قليلة، واجه الطفل الغزاوى يسرى محمود (11 سنة) موتا محققا بعدما اشتعل جسده بنيران الفوسفور الأبيض، وهى المادة التى تسبب حروقا بالغة وفورية يصاحبها دخان كثيف، لتجد أسرة يسرى طفلهم وجسده مشتعلا وحوله دخان كثيف، إذا سكبوا عليه الماء ازداد اشتعالا! وهو ما يعنى أن الصبى يموت بالفعل، من ناحية لقدرة الفوسفور الأبيض على الاشتعال، فضلا عن الدخان والرائحة الخانقة لهذه المادة وضآلة جسد يسرى الذى يجعل احتراقه لا يأخذ أكثر من دقائق، لكن يسرى ظل على قيد الحياة لا يقطعه عنها سوى الدقائق التى اشتعل فيها جسده، وهو يصف ذلك قائلا: «كأن شيئا يجذبنى ثم كأن جسدى يلتصق ببعضه». وآخر ما استخدمه يسرى من حواسه قبل احتراقه، هى حاسة الشم فقد اختنق الفتى من رائحة الفوسفور لكن ما بعد ذلك بدا ممتعا للصبى الذى يقول مبتسما بروح راضية: «كنت أعى وأغيب عن الوعى، أدرك أبى وهو يحاول إنقاذى ووقت أن اصطحبنى إلى المستشفى، ثم أعود إلى ذكرياتى، فأرى أخى الصغير الذى توفى وهو طفل، رأيته وهو شاب يحدثنى، وكنت أناديه باسمه.. أبى سمعنى وأنا أناديه عندما كنت مشتعلا». وبينما جاء رجال الأمن الوطنى فى غزة لإخماد النيران فى جسد الطفل، كان يسرى فى عالم آخر: «شعرت بأجمل إحساس راودنى منذ ولادتى! كل الذكريات الحلوة التى عشتها مرت أمامى كأنها فيديو كليب يضم كل من أحبهم»، الغريب أن يسرى يقول بثقة إن ما أهمه وقتها هو ماذا سيفعل فى المستقبل، وهو ما يعتبره «حلاوة روح». ورغم صغر سنه، لا ينزعج يسرى من الحديث عن تجربة الاحتراق التى يؤكد استمتاعه بها وتمنيه تكرار الموت ولو للحظات!. رسائل الموت لعل يسرى الذى لايزال يتذكر تفاصيل ما رآه خلال رحلة الموت أوفر حظا من صديقه الفلسطينى أحمد نعيم أبوسلامة (16 سنة) الذى أصيب فى الغارات الإسرائيلية خلال «مجزرة جباليا»، واعتبر متوفيا وصدرت له شهادة وفاة وأقيم سرادق عزاء، واعتبرته أسرته فى عداد الشهداء، ثم اكتشفت أنه حى! يروى أحمد أن القصة بدأت العام الماضى عندما كان يلعب مع ثلاثة من أصدقائه فى مخيم جباليا، فجاءهم قصف إسرائيلى غاب بعده أحمد عن الوعى فى غيبوبة استمرت 12 يوما: «لا أذكر أى شىء مما رأيته، أشعر أيضا كأننى لم أكن فى غيبوبة بالمرة، أقصد أننى لما أشعر أن كل هذه الفترة مرت وأنا نائم!» وخلال هذه الفترة كانت جثث الأطفال قد تفحمت فيما عدا واحدة وكان الاستنتاج أنه واحد من هذه الجثث، خاصة أن من شهدوا القصف رأوا الصاروخ ينزل على أبوسلامة. وظل الوضع هكذا إلى أن أفاق أحمد ولم يبد أى تفاعل تجاه أسرة صديقه الذى ظلت تلازمه فى العناية المركزة. وبعد إفاقته، لم يتحدث أحمد لسوء حالته الطبية وكان انفعاله الأول هو البكاء عندما رأى والديه فى غرفة العناية المركزة، وسأل عن صديقه المقرب أول ما تحدث: «كان مشهد الانفجار هو أكثر شىء عالق فى ذهنى، كنت أود أن أعرف ماذا حدث بعدها لى ولأصدقائى». وأصيب «الشهيد الحى» بإصابات بالغة فى مخه وجسده أثرت على حركته وقدرته على الكلام لفترة، ومايزال حتى اليوم يعالج منها وفى كل مرة يستدعى فيها القصة يحاول تذكر ما رآه قبل عودته للحياة فلا يفلح! فى المقابل، تقول إيرينى بعد مرور أكثر من ست سنوات على سقوطها من الطابق السابع: «كان بينى وبين الموت شعرة واحدة، قدر الله ألا أتجاوزها»، متذكرة تفاصيل إلقائها لنفسها من الطابق السابع وبقائها على قيد الحياة! أصيبت بكسور مضاعفة وخضعت لجراحات وعلاج طبيعى لنحو عام كامل، لكن إقبال الفتاة على الموت كان مخلوطا بكثير من التردد كما تقول: «كنت أود أن تدرك أسرتى معارضتى الشديدة لهم دون أن أفقد حياتى أو أقدم على خطيئة الانتحار!!». وتتصور إيرينى أن هذه الرغبة الداخلية فى البقاء على قيد الحياة هى سبب عدم اكتمال رحلة الانتحار التى بدأتها بالقفز من الشرفة: «لا أتذكر سوى أننى كنت مترددة فى القفز، لحظة القفزة نفسها مرت طويلة جدا وتوقف عقلى خلالها». سقطت الشابة فى الشارع وتجمع حولها المارة «كأن شيئا كان يمنعنى من الكلام، لكن الجيران أخبرونى أننى كنت أتكلم طالبة منهم النجدة.. فى الحقيقة أنا كنت أخاف الموت». ونقلت إيرينى للمستشفى «وقتها كنت كأننى أرى ما يحدث من بعيد، كأن أشخاص حولى يسعفوننى ويتحدثون، لكننى لم أسمعهم ولم أحس بأى ألم. كنت مهتمة بمتابعة محاولتهم إنقاذى. أكيد أن إحساسى بهذه الشعرة بين الحياة والموت كان رسالة ربانية». إيرينى التى تحس بالذنب لارتكابها خطيئة قتل نفسها تؤكد أنها شاهدت بعد سقوطها مشاهد روحية، موضحة: «كنت أسمع صوتا كأنه موسيقى قداس، وتوالت أمامى صور للسيدة مريم والسيد المسيح، لا أعرف إذا كانت مجرد صور مخزونة فى ذاكرتى أو أننى رأيت أحدهم حقا». تأثرت الشابة بهذا الجو الروحانى الذى جعلها تشعر أن الله يحميها ويحيطها، وأنجاها من الموت لأنه يريدها أن تفعل شيئا مفيدا فى حياتها التى تغيرت بالفعل بعد هذه التجربة: «الوقت ما بين الموت والحياة صنع فارقا فى حياتى، أشعر أن قدرا من السلام صار بداخلى، أحس أيضا أن الله شاء أن يكتب لى الحياة لأفعل فيها شيئا جميلا»، وتقول إيرينى أيضا أن الفترة التى قضتها فى العلاج أكدت هذا المعنى: «أشكر الله لم أصب بإعاقة فى جسدى، كل شىء عادى فى حالة جيدة وهى نعمة تؤكد الرسالة التى تحملها نجاتى من الموت». علم العودة من الموت! بعد النجاح الكبير لكتاب الطبيب الأمريكى رايموند مودى عن «خداع الموت»، أصدر كتب «إضاءة خلفية» و«اجتماعات» و«حياة ما بعد الموت» و«تأملات» و«الضحكة الأخيرة» ومجموع ما تحتويه هذه المؤلفات 150 شهادة لأشخاص عادوا للحياة بعد موت مؤقت، يعرضها مودى ويقارن بينها. وخلص مودى إلى وجود 9 عناصر مشتركة فى جميع شهادات من عاشوا هذه التجربة، هى: سماع أصوات قد تكون ضجيجا أو موسيقى ملائكية شعور بالسكينة يتلاشى معه الألم الإحساس بالانفصال عن الجسد دخول نفق إحساس بالارتفاع نحو السماء رؤية أشخاص خاصة المتوفين الإحساس بالروحانية مشاهدة شريط حياة شخص ما التردد فى العودة إلى الحياة. ولم يحدث أن تطابقت رؤية شخصين لما بعد موتهما، رغم تشابه الجو العام لهذه الرؤية لدى الأشخاص الذين عاشوا التجربة بشكل جماعى، مثل تعرض قرية للغرق ثم اكتشاف عدد من الناجين، ما رآه هؤلاء متشابها. وكان شهر أبريل الماضى محطة مهمة فى المتابعة العلمية للاقتراب من الموت، بعد صدور دراسة للطبيب كيفين نيلسون أستاذ الأمراض العصبية بجامعة كانتوكى الأمريكية، حاول من خلالها إيجاد تفسير لما يراه الشخص فى موته المؤقت، وذكر: «الأضواء اللامعة التى يراها هؤلاء هى نتيجة نشاط الجهاز البصرى المفاجئ فى اللحظة التى يقرر فيها المخ الدفاع عن نفسه بالدخول فيما يشبه النوم. أما النفق المظلم الذى يحسوا أنهم دخلوا فيه، فهو نتيجة ضعف تدفق الدم إلى عيونهم». أما الصور الروحانية التى رأتها إيرينى فهى وفقا لدراسة نيسلون ناتجة من مناطق فى الدماغ تتحكم عادة فى المشاعر والذاكرة طويلة الأمد. واعتبر الطبيب الأمريكى أن ما رآه هؤلاء أقرب إلى الحلم، فقال فى الدراسة التى نشرتها صحيفة الأكاديمية الأمريكى لجراحة الأعصاب: «لدى أدمغتنا الكثير من الحيل تفعلها إذا ما واجهنا خطرا ما، إحدى هذه الحيل هى الدخول فى حالة تشبه النوم»، وبناء على ذلك فإنه فى رأى نيلسون أن آلية ظهور الأشياء التى يراها من تعرض للموت المؤقت هى نفسها آلية رؤية الأحلام، التى تحدث من خلال ما يسمى «الحركة غير السريعة للعين»، وفيها يقل مستوى وعى الشخص لما يدور خارج عقله وتتحرك عينيه لرؤية الأحلام، وطرح هذه التفسيرات يؤكد فكرة أن ما يراه الشخص وقت موته المؤقت أشياء حقيقية. وبعد صدور عشرات الكتب التى جمعت شهادات العائدين من الموت، وجدت أيضا مؤسسات تخصصت فى رصدها والبحث حولها أشهرها جمعية «خبرات الاقتراب من الموت» الأمريكية. لكن البحث العلمى للظاهرة يظل مرفوضا من أساسه من جانب بعض الأطباء، وحجتهم أن العلم يتعامل مع أشياء يمكن ملاحظاتها وقياسها ويجوز إخضاعها للفحص أو التجربة المعملية، ما يبعد خبرة الموت المؤقت عن دائرة البحث العلمى. فى المقابل، كان رأى آخر يقول إن ما يراه هؤلاء الأشخاص يصلح كمادة علمية وإن التعامل مع شهادات من عاشوا هذه التجربة سيقود الباحث إلى فرضيات وربما تفسيرات علمية. ولم يكن علماء النفس بعيدين عن بحث هذه الشهادات، خاصة ما بعد النجاة من الموت، فقد وجد أن الرؤى التى تراود الشخص عند اقترابه من الموت تترك لديه شعورا بالإدراك الشامل لكل شىء ونوعا من التشوش لأن احساسه بالواقع اهتز بعد أن أحس خلال موته المؤقت بواقع جديد غير الذى عادوا إليه ويقل كثيرا خوف الشخص من الموت بينما يزداد إحساسه بالحب المجرد من المصالح، كما تترك الخبرة زيادة فى الإحساس الروحى لدى العائد من الموت ويزداد إيمانهم بالله أو ب«القوى العليا». الجدير بالذكر أن التعرض للموت المؤقت تجربة لا تفرق بين المؤمنين وغير المؤمنين، فقد عاشها كثيرون من أبناء ثقافات وجنسيات مختلفة وأعمار متفاوتة. وبينما يستمر الخلاف حول قابلية «خداع الموت» للدراسة العلمية، تجتذب الظاهرة المزيد من الجمهور سواء من عاشوها أو هواة المعرفة، فما يكاد يصدر كتاب بهذا الشأن إلا ويكون نواة لكتاب آخر بعد ورود مزيد من الشهادات عن الموت المؤقت إلى المؤلف، وهو ما يحدث الآن مع كيفين ويليمز مؤلف كتاب «لا شىء أفضل من الموت» الذى أسس موقعا على الإنترنت لجمع شهادات من تعرض للموت المؤقت، ونشر الأبحاث الصارة فى هذا الشأن.