التعليم العالي: الإعلان عن منح دراسية باليابان مقدمة من البنك الدولي    عمداء الكليات بجامعة القاهرة يواصلون استقبالهم للطلاب الجدد    تراجعات كبيرة في أسعار الذهب عالميا.. ماذا حدث بعد أزمة لبنان؟    مدبولي ونظيره البافاري يشهدان توقيع إعلان نوايا مشترك بين وزارة الكهرباء وحكومة ولاية بافاريا الألمانية    مجلس الوزراء يصدر تعليمات جديدة بشأن منظومة استيرات سيارات ذوي الهمم    «القاهرة الإخبارية»: رصد 25 رشقة صاروخية من جنوب لبنان على الحدود الشمالية    طائرات مروحية تنقل جنودا قتلى وجرحى بعد حدث أمني صعب في إسرائيل    رابطة الدوري الفرنسي تعلن إيقاف المغربي المهدي بنعطيه    النائب العام يأمر بالتحقيق في بلاغ «الكهرباء» حول فيديو فتوى إباحة سرقة المياه والكهرباء والغاز    لطفي لبيب يتحدث عن تجربته مع الكتابة في «الوطن»: الصحافة مهنة شاقة    تفاصيل عروض برنامج «فلسطين في القلب» بمهرجان الإسكندرية السينمائي    هشام نصر: العقد الجديد ل"زيزو" سيكون الأعلى في الدوري المصري    زغلول صيام يكتب: سوبر إيه بس!.. من ينقذ كرة القدم من هذا العبث؟! وإيه حكاية زيطة الإداريين في الجبلاية    الحكومة تدرس نقل تبعية صندوق مصر السيادي من التخطيط إلى مجلس الوزراء    الدفاع الروسية: تدمير منشآت الطاقة التي تغذّي المنشآت العسكرية الأوكرانية    سناء خليل: مايا مرسي تستحق منصب وزيرة التضامن بجداره    تفاصيل الظهور الأول لبسمة داود في مسلسل تيتا زوزو    سفير مصر بالدوحة يلتقى مع وزير الدولة للشئون الخارجية    "الإسكان" يُصدر قراراً بحركة تكليفات وتنقلات بعددٍ من أجهزة المدن الجديدة    لحسم الشكاوى.. وزير العدل يشهد مراسم إتفاقية تسوية منازعة استثمار    التموين تكشف حقيقة حذف فئات جديدة من البطاقات    جون دوران بعد هدفه أمام بايرن: سجلت في شباك أحد فرق أحلامي    نائب وزير الإسكان يتابع موقف تقديم خدمات المياه والصرف الصحي بدمياط    للخريف سحر لا يقاوم.. 15 صورة من شواطئ عروس البحر المتوسط    إصابة عاطلين في معركة بالأسلحة النارية بالمنيا    ضبط 17 مليون جنيه حصيلة قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    الأمن يكشف لغز العثور على جثة حارس ورشة إصلاح سيارات مكبل في البحيرة    قرار عاجل من مدير تعليم الجيزة بشأن المعلمين    ضبط 367 عبوة دواء بيطري مُنتهية الصلاحية ومجهولة المصدر بالشرقية    مجلس الشيوخ.. رصيد ضخم من الإنجازات ومستودع حكمة في معالجة القضايا    سر مثير عن القنابل الإسرائيلية في حرب أكتوبر    حلاوة رئيسًا للجنة الصناعة والتجارة بمجلس الشيوخ    في أول أيامه.. إقبال كبير على برنامج «مصر جميلة» لرعاية الموهوبين    بسبب عادل إمام.. لطفي لبيب يحكي قصة زيادة اجره "صفر" جنيه    فى احتفالية كبرى، الأوبرا تحتفل بمرور 36 عامًا على افتتاحها بمشاركة 500 فنان    بعد إعلان اعتزالها.. محطات في حياة بطلة «الحفيد» منى جبر    محافظ المنيا يعلن موعد افتتاح مستشفيات حميات وصدر ملوي    الصحة: تطعيم الأطفال إجباريا ضد 10 أمراض وجميع التطعيمات آمنة    «التضامن» تشارك في ملتقى 57357 للسياحة والمسئولية المجتمعية    نائب وزير الصحة يوصي بسرعة تطوير 252 وحدة رعاية أولية قبل نهاية أكتوبر    توقعات برج القوس اليوم الخميس 3 أكتوبر 2024: الحصول على هدية من الحبيب    مركز الأزهر للفتوى يوضح أنواع صدقة التطوع    «القاهرة الإخبارية»: استمرار القصف الإسرائيلي ومحاولات التسلل داخل لبنان    محامي أحمد فتوح يكشف تفاصيل زيارة اللاعب لأسرة ضحيته لتقديم العزاء    صلاح الأسطورة وليلة سوداء على الريال أبرز عناوين الصحف العالمية    بريطانيا تستأجر رحلات جوية لدعم إجلاء مواطنيها من لبنان    التابعي: الزمالك سيهزم بيراميدز.. ومهمة الأهلي صعبة ضد سيراميكا    باحث سياسي: حرب إسرائيل بلبنان تستعيد نموذج قطاع غزة.. فيديو    الحالة المرورية اليوم الخميس.. سيولة في صلاح سالم    4 أزمات تهدد استقرار الإسماعيلي قبل بداية الموسم    نجاح عملية استئصال لوزتين لطفلة تعانى من حالة "قلب مفتوح" وضمور بالمخ بسوهاج    رئيس الوزراء يُهنئ وزير الدفاع بذكرى نصر أكتوبر    حكم الشرع في أخذ مال الزوج دون علمه.. الإفتاء توضح    كيفية إخراج زكاة التجارة.. على المال كله أم الأرباح فقط؟    هانئ مباشر يكتب: غربان الحروب    محافظ الفيوم يُكرّم الحاصلين على كأس العالم لكرة اليد للكراسي المتحركة    تعدد الزوجات حرام.. أزهري يفجر مفاجأة    فوز مثير ل يوفنتوس على لايبزيج في دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صلاح فضل يكتب :طارق حجى وكتاب(سجون العقل العربى)
نشر في الشروق الجديد يوم 11 - 02 - 2010

فى تناغم مضمر وطريف، مع أبيات أبى العلاء المعرى الشهيرة التى يقول فيها:
« أُرانى فى الثلاثة من سجونى فلا تسأل عن الخبر النبيثِ
لفقدى ناظرى، ولزوم بيتى وحبس النفسَ فى الجسم الخبيثِ »
يحدد المفكر الليبرالى الشجاع طارق حجّى السجون التى تقيد العقل العربى كله، فتحول دون انطلاقه المتوثب لتحقيق طفرة النهضة والتقدم فى العصر الحديث فى ثلاثة سجون أيضا، هى طبقا لتشخيصه الدقيق فى أحدث وأوفى كتبه «سجون العقل العربى» وهى فى تقديره «سجن الفهم البدائى للدين، وسجن الموروثات والمفاهيم الثقافية السلبية التى أثمرتها تجربتنا التاريخية، ثم سجن الفزع والرعب من الحداثة والمعاصرة، بحجة التخوف على خصائصنا الثقافية من الضياع والزوال، أو امتزاج الدماء الشريفة لهذه الخصوصيات بالدماء غير الشريفة لثقافات وافدة».
ولأن «رهين المحبسين» أو بالأحرى المحابس الثلاثة كان يتحدث عن مشكلته الوجودية والكونية، وينبش عنها فى جذورها الكامنة عند عجزه الشخصى والإنسانى فقد استحق تقدير كل العصور لصدقه وجسارته.
أما طارق حجى فهو يحاول الإمساك بالثور من قرنه، كما يقول الإسبان، لترويضه على الفهم والإذعان، وهى محاولة تتطلب الحوار، وتدعو للتأمل، وتنذر بالخطر.
وقد عشت سنوات طويلة من شبابى فى الغرب، فى إسبانيا وأمريكا اللاتينية على وجه التحديد، منذ منتصف الستينيات حتى منتصف الثمانينيات تقريبا، أرفع عن الثقافة العربية الإسلامية تهمة المسئولية عن تخلفنا الحضارى، وأكشف بعض إنجازاتها الإنسانية الكبرى، وهو دور يجد الإنسان نفسه فى قلبه عندما يكون بالخارج، لأنه ينبع من التماهى بين الهوية والثقافة، ويعبر عن رسالة لا مناص عن أدائها بحمية واجتهاد. لكننى فى العقود الأخيرة، وعبر مكابدات موجعة فى الواقع المحزن للوطن العربى، خاصة فى مصر التى تظل بالرغم من كل شىء نقطة الانطلاق لحركته وقاطرتها الأساسية، أجدنى فى موقف مخالف غير راض عن ثقافتنا، أتمثل بقوة الشاعر العربى:
«لا أذود الطير عن شجر قد بلوت المرُّ من ثمره»
فالفهم البدائى للدين، تماما كما يقول طارق حجى، يستوى فى ذلك الدين الإسلامى والمسيحى، والانشغال اليومى بقضاياه، واختيار التافه من مظاهره الخارجية مثل الملبس واللحى وغير ذلك، وتجاهل أبعاده الحضارية فى تنمية العقل، وتحرير الوجدان وترقية المجتمع هو الغالب على وعينا الزائف به، وهو الحصاد المرير الذى يكاد يسمم عقول الشباب بالتعصب، ويهدر طاقاتهم بسوء توجيهها، طبقا لسلّم عجيب من الأولويات الشكلية، يفضى إلى تقديس التظاهر بالتدين، وإهمال التفكير العلمى، وضعف الإنتاج الثقافى المبدع، والعجز عن مواجهة التحديات الحضارية المعادلة المدمرة:
يتحدث طارق حجى بمنطق المفكر المحلل الحصيف عن هذا الواقع العربى وآليات حركته فيجملها فى كلمات وجيزة، قبل أن يشرحها فى صفحات مطولة، يقول: «الاستبداد السياسى ينتج آثارا سلبية خطيرة، أهمها قتل «الحراك الاجتماعى»
بمعنى توقف صعود أفضل أبناء وبنات المجتمع للمقاعد القيادية فى شتى المجالات، مما يؤدى لشيوع عدم الكفاءة، حيث يأتى الاستبداد بالاتباع لا بالأكفاء، وشيوع عدم الكفاءة يثمر مناخا مفعما باليأس، ومنه تنبثق ذهنية العنف، وتنخفض قيمة الحياة الإنسانية»
ثم يقول «وقد قادنى الانشغال بشئون المجتمعات العربية والإسلامية لأن أرى بوضوح المعادلة التى أسميها «معادلة التدمير»
الحكم الأوتوقراطى يؤدى لوقف الحراك الاجتماعى.. وقف الحراك الاجتماعى يقضى على الكفاءة فى سائر المجالات، مما يؤدى لتوليد طاقة شريرة عملاقة هى اليأس، ويفرز ذهنية العنف واسترخاص الحياة والرغبة الهائلة فى الانتقام».
ومع تسليمنا بصحة هذه المعادلة فى جملتها، فإن هناك معاملات أخرى تدخل فى تركيبها، من أهمها البديل الذى يحل عند أنصار الاتجاهات الدينية من اليأس، وهو اللواذ بحلم الجنة منه، وتبرير استرخاص الحياة بمقولة الشهادة فى سبيل الدولة الدينية الطوباوية، كما أن بقية حلقات المعادلة لا تمضى دائما فى الواقع على هذا النسق الصارم، فالاستبداد السياسي يقضى بتقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، لكن المخلصين من أبناء الوطن لا يقفون دائما موقف المتفرج، بل يتصدون لبعض الأعمال القيادية تحقيقا لذواتهم وإفادة لمجتمعاتهم
من هنا يصبح «عدم الكفاءة» ليس شاملا وإن لا توقفت عجلة الحياة، لكن الأمر الحاسم هو ارتباط القرارات المصيرية بإرادة سياسية عليا تضع استمرارها فى السلطة فوق أى اعتبار آخر، مما يعوق النتائج المثمرة لأى جهد تقوم به الكفاءات الموظفة وينتهى إلى إهدار طاقتها أيضا.
ومازلت أذكر حوارا عاصفا جرى بينى وبين أهم وزير تخطيط شهدته مصر فى النصف الثانى من القرن العشرين وهو المرحوم الدكتور إبراهيم حلمى عبدالرحمن فى مدريد، وكيف سألته عن فشل كل مخططات الدولة منذ عبدالناصر فى النهوض بمصر وإعطائها نتائج عكسية، وكأن هناك عبقريا يخطط لإحباط طاقة أبناء مصر على النهوض والتقدم، فكاشفنى فى حضرة كبار رجال الدولة بأن المأساة تكمن فى القرار السياسى الأعلى الذى يكون غالبا بمثابة الثقب فى قربة الماء، ولو احترم الرؤساء خطط التنمية كاملة لآتت أكلها.
وهذا هو الفرق الحاسم بين النظم الاستبدادية والديمقراطية، فالأخيرة تحتكم إلى إرادة الشعب، وتبنى على إنجازاتها السابقة، ويقوم التراكم الضرورى فى الخبرة والتخطيط بمهمة السياسات الاستراتيجية لحركة متصاعدة نحو التقدم المطرد.
غياب العقل النقدى:
إذا كان النقد كما يقول كانط «هو أفضل أداة بناء عرفها العقل البشرى» فإن غياب العقل النقدى فى الثقافة العربية السائدة يصبح أخطر ما تصاب به أمة من الأمم، ومع أن طارق حجى يرصد عددا آخر من المفاهيم السلبية التى تسجن العقل العربى فى إسارها مثل الطاعة والإذعان والتصلب وفقدان السماحة فإن «غياب العقل النقدى» يعد العنصر المولّد لهذه المفاهيم، «فالنقد للأشياء والظواهر والأفكار والمسلمات هو معلم مؤسس للثقافة التى أسهمت فى بناء المجتمعات الغربية المتقدمة.
والنقد أداة يتعلمها ويكتسبها الإنسان منذ فجر وعيه وإدراكه، فهو يتنفس هواء يسمح له منذ البداية بنقد كل ما حوله، فالصغير يتعلم أن كل ما يحيط به من أشياء وأشخاص قابل للنقد، كما يتعلم ممارسة هذا النقد فى ظل قبول عام له، دون أى توتر أو غضب. وتأتى برامج التعليم لترسيخ هذا الاهتمام بالنقد كأداة بناء بالغة الأهمية، باعتبارها أعظم وسائل الارتقاء بالمؤسسات والأفكار والممارسات، أما ضيق الصدر بالنقد مع تقلص السماحة والبعد عن الموضوعية والتعصب، واعتبار الآخرين أعداء يتربصون بنا فهى مظاهر لفقدان الثقة والعجز عن التفكير الخلاق».
على أن هناك وجها إيجابيا للنقد يفقد معناه إن لم يتحقق معه، وهو الاستجابة المنظمة له وتفعيل النتائج المترتبة عليه، حتى لا يصبح مجرد تنفيس عن شعور مكبوت لا يجد ترجمة له ولا سلوكا مبنيا عليه فى الواقع العملى، وأهم ما يترتب على الفكر النقدى إزالة طابع القداسة والعصمة عن الأشخاص والأفكار والمؤسسات ووضع أطر منظمة لمراجعتها ومحاسبتها، وحصر نطاق تلك المؤسسات التى تزعم لنفسها سلطة تعلو على النقد والمساءلة، وهى المؤسسات غير المدنية، سواء كانت دينية أو عسكرية؛ إذ تجنح عادة إلى ادعاء احتكار الحقيقة فى العقائد الدينية والوطنية، وإضفاء مهابة تغطى على الأخطاء والتجاوزات، ولا سبيل إلى تحجيم طغيان الكهنوت والعسكرة، وفك ارتباطهما فى كثير من الأحيان، إلا باعتبار الحرية هى المقدس الإنسانى الجديد الذى تخضع له جميع السلطات السابقة. وتفعيل النصوص الدستورية التى تكفلها دون أى قوانين تسلب بالشمال ما يعطيه الدستور باليمين، واعتبار حق النقد والمساءلة والتصويب من المسلمات التى لا تمس.
على أن بقية فصول هذا السفر الذى يقع فى أربعمائة وخمسين صفحة تستحق التأمل والقراءة المتمعنة، لمعرفة الظواهر وأسبابها التاريخية، والإطار المعرفى الناظم لها، والحلول الممكنة لما يظن أنه يستعصى على التغيير من مفاهيمها القارة.
وينتهى طارق حجى من كتاب عمره كما يصفه إلى نتيجة فحواها أن العقل العربى لا تنقصه القدرة على تحقيق أرقى درجات التحضر والإسهام فى حركة التقدم الإنسانى، شريطة الخروج من هذه السجون وممارسة الحداثة العلمية والفكرية المبدعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.