إذا صدقت الإشارات التى تبثها وسائل الإعلام المختلفة هذه الأيام، فهى تعنى أن منطقة الشرق الأوسط تستدرج بشكل حثيث للدخول فى المرحلة الإسرائيلية. 1 التسخين الراهن الذى يلوح باحتمالات اندلاع الحرب فى المنطقة يبدو مفاجئا. ذلك أن حسابات بداية العام كانت توحى بأن شبح الحرب لن يلوح فى الأفق قبل نهاية العام الحالى. وانبنت تلك الحسابات على أساس تقدير الموقف الأمريكى بوجه أخص، ذلك أن ثمة اتفاقا بين الخبراء على أن أى حرب تشنها إسرائيل فى المنطقة إذا لم تكن بمشاركة أمريكية فلن تقع بغير موافقة منها، بمعنى أن واشنطون ستكون فى كل الأحوال طرفا فيها، سواء بحكم تحالفها الاستراتيجى مع إسرائيل، أو بحكم حساباتها ومصالحها الاستراتيجية المفترضة فى المنطقة. التقدير الذى أشرت إليه وضع فى الحسابات العوامل التالية: أولوية الأزمة الاقتصادية الداخلية فى أجندة الرئيس أوباما ومشروعاته التى يريد تمريرها من الكونجرس تحسبه لانتخابات الكونجرس النصفية فى شهر نوفمبر القادم خصوصا فى ظل تراجع التأييد الشعبى له انتظاره لإتمام انسحاب القوات الأمريكية من العراق الذى يفترض أن يبدأ فى شهر أغسطس المقبل ورطة القوات الأمريكية والدولية فى أفغانستان. كان الظن أن الإدارة الأمريكية لن تتحمس لأى عمل عسكرى جديد فى المنطقة مادامت هذه العوامل قائمة. خصوصا أن احتمالات ردود الأفعال المترتبة عليه واسعة ومحفوفة بالمخاطر، إذ يفترض أن يوجه العمل العسكرى إما ضد سوريا ولبنان أو ضد إيران أو ضد الثلاثة فى نفس الوقت، والأخيرة هى الهدف الأساسى، لأن تقدم طهران فى مشروعها النووى يشكل خطا أحمر، باعتبار أن من شأن ذلك ظهور قوة ردع حقيقية لإسرائيل تهدد انفرادها بصدارة القوة فى الشرق الأوسط. وفى الحسابات الإسرائيلية أن توجيه الضربة العسكرية لإيران يستلزم تأمين محور سوريا جنوب لبنان لتجنب احتمال صدور أى قصف من هذه الجبهة، وخطوة من ذلك القبيل ليست مهمة لإسرائيل فحسب، ولكنها مهمة للولايات المتحدة أيضا، إذ إن المحور المتمثل فى إيران وحزب الله وسوريا، مضافا إليه المقاومة الفلسطينية التى تتصدرها حركة حماس لا يزال يمثل الرباعى المتمرد على السياسة الأمريكية فى المنطقة. 2 ليس سرا أن إسرائيل وأذرعها الممتدة فى الولاياتالمتحدة ما برحت تلح على توجيه الضربة العسكرية إلى إيران، ولم يكن هناك خلاف بين الطرفين على المبدأ، وإنما اختلفت التقديرات حول التوقيت والتدابير الأخرى. لكن يبدو أن كفة الحسابات الإسرائيلية، أصبحت أرجح خلال الأسابيع الأخيرة، التى شهدت تسخينا فى التصريحات وتصعيدا فى الإجراءات المتخذة على الأرض. وترتب على ذلك أن أصبح موضوع الحرب عنوانا رئيسيا فى صحف الأسبوعين الأخيرين. فتحدثت صحيفة «الشروق» عن حرب إسرائيلية متوقعة فى عام 2010، وذكر الرئيس بشار الأسد أن إسرائيل تدفع المنطقة إلى الحرب، ونشرت صحيفة الأهرام أن مصر طالبت إسرائيل بوقف التلويح بالحرب ضد أى دولة عربية. وأضفت تصريحات التهديد التى أطلقها وزيرا الدفاع والخارجية الإسرائيليين مزيدا من السخونة والتوتر على الأجواء، فى حين تناقلت الصحف أخبارا عن حشود إسرائيلية ومناورات عسكرية على الحدود مع لبنان، وأخبارا أخرى عن الاستنفار بين قوات حزب الله واستدعاء سورية لعناصر «الاحتياط الرابع»، وبعضهم عمال يعيشون فى الأراضى اللبنانية. وخرجت علينا صحيفة نيويورك تايمز فى «30/1» بتقرير ذكر أن الولاياتالمتحدة بصدد نشر أنظمة صواريخ مضادة للصواريخ فى دول منطقة الخليج، تحسبا لهجوم إيرانى محتمل (ردا على الضربة العسكرية المفترضة)، ذكر التقرير أيضا أن سفنا حربية أمريكية بصدد الانتشار أمام السواحل الإيرانية. وهذا الذى تحدثت به الصحيفة الأمريكية أيده وزير خارجية البحرين، الذى أكد أن الولاياتالمتحدة نشرت الأنظمة المذكورة، مضيفا أن وجودها يدخل فى نطاق «الترتيبات الدفاعية». وإذ تزامن ذلك مع الزيارات التى قام بها رئيس المخابرات المركزية الأمريكية لبعض عواصم المنطقة، فإن تلك الشواهد توضح لنا مغزى تصريح السيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية فى باريس الذى قال فيه إن «المنطقة تسير على صفيح ساخن بصورة غير مسبوقة». حتى إذا كانت تلك حرب أعصاب، للتخويف قبل الحرب الحقيقية فما يهمنا فيها أن مجمل المسار يمثل استجابة للاستراتيجية الإسرائيلية التى لا ترى بديلا عن إجهاض المشروع النووى الإيرانى وتصفية قوى الممانعة فى المنطقة، بحيث لا يعلو فيها صوت على صوت إسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية. وسط هذه الأجواء حدث تطوران مهمان فى الولاياتالمتحدة، الأول أن مجلة «تايم» نشرت فى 21/1 حوارا مستفيضا مع الرئيس أوباما بمناسبة مرور سنة على توليه السلطة، عبر فيه عن شعوره بالإحباط إزاء الآمال التى كان قد علقها على جهود إحياء عملية السلام فى المنطقة. وقال إنه هوَّن فى بداية عهده من الصعوبات التى تعترض تسوية الصراع العربى الإسرائيلى، وأنه لو أدرك طبيعة تلك الصراعات مبكرا ما كان له أن يرفع سقف توقعاته (كان أوباما قد دعا إلى وقف الاستيطان والتوسع النسبى فى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لإطلاق مفاوضات تسوية القضية ولكن إسرائيل رفضت وقف الاستيطان). الحدث الثانى كانت دلالته أعمق، ذلك أن الرئيس الأمريكى وقف فى 27/1 لكى يلقى خطبة الاتحاد، التى تحدث فيها عن أهم التحديات والقضايا الداخلية والخارجية، وجاءت الخطبة فى 5700 كلمة، لم تذكر فيها القضية الفلسطينية ولو بكلمة واحدة. وكان ذلك انتصارا آخر للسياسة الإسرائيلية. 3 حين أسقط أوباما الملف الفلسطينى من خطابه الأخير فإنه أراد أن يبعث بعدة رسائل إلى من يهمه الأمر فى بلادنا. أول هذه الرسائل أن أهمية القضية تراجعت، وصارت همَّا إقليميا وليس شأنا دوليا. ثانيها أنه ترك الباب مفتوحا لما يمكن أن يحققه مبعوثه إلى المنطقة السناتور جورج ميتشيل فى جولاته المكوكية بين العواصم العربية وإسرائيل. الرسالة الثالثة أنه لم يرد أن يضع أى قيد يحول دون تحقيق التطلعات الإسرائيلية التى أدرك أن السلطة الفلسطينية والدول العربية «المعتدلة» على الأقل يتعاملون معها بمرونة مشهودة. كان واضحا أن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو كسب جولته فى واشنطون، واستطاع أن يوقف الرئيس أوباما عند الحدود التى أرادها دون أن يدفع ثمنا لذلك، لا من مشروعات التوسع والاستيطان ولا من عملية التهويد المستمرة على قدم وساق فى القدس. كما أنه نجح فى إقناع الجميع بمن فيهم بعض العرب بأن إيران هى المشكلة وهى مكمن الخطر ومصدره. نتنياهو لم يهزم الرئيس الأمريكى فحسب ولكنه ذهب إلى أبعد، حين نجح فى توظيف نفوذ الإدارة الأمريكية فى تكثيف الضغوط على العرب لكى يقدموا مزيدا من التنازلات المجانية لإسرائيل. والهدف من هذه التنازلات هو التراجع عن مطلب وقف الاستيطان. والعودة إلى طاولة المفاوضات «بدون شروط مسبقة»، كما ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلى. وتدل الشواهد المختلفة على أن هذا الهدف تم الاتفاق عليه، والحاصل الآن هو الإعداد لإخراجه بشكل مقبول، ذلك أن مطلب وقف الاستيطان تم التراجع عنه بصورة تدريجية، أمام تمسك الحكومة الإسرائيلية باستمراره رغم مخالفته الصريحة والزاعقة لأحكام القانون الدولى. من ثم جرى الحديث عن «تعليق مؤقت» بحيث لا يشمل القدس أو تصريحات البناء السابقة. (الأمر الذى يعنى إقرارا بشرعية ما سبق بناؤه). بعد ذلك جرى الحديث عن «ضمانات» أمريكية، يمكن تبيعنا كلاما معسولا، لكننا نعرف مسبقا إلى أى جانب سننحاز فى نهاية المطاف. كلام نتنياهو عن رفض «الشروط المسبقة»، الذى أيدته فيه وزيرة الخارجية الأمريكية، لا يعنى سوى أمرين، أولهما التغاضى عن التوسع الاستيطانى والتهويد وغير ذلك من الوقائع التى تفرضها إسرائيل على الأرض. وثانيهما تحويل المفاوضات إلى هدف يؤدى إلى تسكين أو تخدير الوضع الفلسطينى والعربى، بدعوى أن جهود التسوية مستمرة. وهذا التسكين يوفر مناخا مواتيا لإسرائيل لأن تعربد على الجبهات الأخرى من سوريا إلى لبنان وصولا إلى إيران، لتضمن تركيع المنطقة بأسرها. 4 إسرائيل مطمئنة إلى أنه فى ظل العجز العربى الراهن، فإنها لن تصادف عقبة فى تحقيق مرادها. فأبومازن لم تعد لديه أية خيارات أخرى بعدما أصبح يتباهى بأنه قضى على المقاومة فى الضفة الغربية التزاما منه ببنود خريطة الطريق، وهو «الإنجاز» الذى أسهم فيه التعاون الأمنى مع الإسرائيليين، أما بقية الدول العربية وفى المقدمة منها ما سمى بمعسكر «الاعتدال» فإنها اكتفت بالمبادرة العربية المفتوحة التى أبرأت ذمتها بإعلانها. ويبدو أنها على استعداد لمراجعة بعض بنودها التى اعترضت عليها إسرائيل، وعلى رأسها البند الخاص بحق عودة اللاجئين إلى ديارهم. فى هذا الصدد لابد أن يستوقفنا تصريح وزير الخارجية المصرى عقب اجتماع الرئيس مبارك مع نتنياهو الذى زار القاهرة فى 29 ديسمبر 2009، الذى قال فيه إن اللقاء كان «إيجابيا للغاية». وهو ما يعنى أن ثمة تفاهما بين الطرفين (للأسف!) حول العناوين الرئيسية على الأقل. الخلاصة لا هى صعبة أو مستعصية. ذلك انه بعد استبعاد الخيارات الاخرى، والالتزام بالمفاوضات فحسب، وتسليم مفاتيح القضية للولايات المتحدةالأمريكية التى كفت عن مطالبة إسرائيل بشىء، فإن نتائج المفاوضات المرتقبة والتنازلات المرجوة منها تصبح محسومة لصالح الطرف الإسرائيلى. خصوصا أنه ليست لدى الطرف الفلسطينى أى أوراق يضغط بها أو أية خيارات أخرى يلجأ إليها. وهو ذاته الحاصل مع أغلب الدول العربية. سيناريو الدخول فى المرحلة الإسرائيلية لا هو أكيد ولا هو مضمون مائة فى المائة، لكنه مرجح فحسب. وثمة عوامل ثلاثة يمكن أن تحول دون تحقيق مبتغاه، الأول أن يشعل الرد الإيرانى على العمل العسكرى الإسرائيلى حريقا يصعب السيطرة على حدوده أو تداعياته. الثانى أن تتغير توازنات الساحة الفلسطينية، سواء بانتفاضة ثالثة فى الداخل، أو انتفاضة سياسية فى الخارج تعبر عن موقف الأغلبية الصامتة الفلسطينية التى لا هى فتح ولا هى حماس. أما العامل الثالث فهو أن يتغير شىء فى المعادلة العربية يستنقذ الأمة من الوهن الذى استسلمت له. وهذه عوامل تختلط فيها التمنيات بالأحلام، لكن ربك قادر على كل شىء، خصوصا إذا وجد من يستحقون النصرة.