ليس فى عنوان المقال خطأ مطبعى. نعم، مازال أمام الولاية الأولى لأوباما إذا قسناها بعدد السنين ثلاثة أعوام كاملة، أى ثلاثة أرباع هذه الولاية. لكن الزمن السياسى لا يقاس بحساب السنين، وإنما بحساب الأفكار والصراعات. وبهذه الطريقة فى الحساب، يمكن القول بأن الولاية الأولى لأوباما انتهت، وانتهى معها شهر العسل بين الولاياتالمتحدة والعالم، لتبدأ مرحلة جديدة من الاشتباكات العنيفة فى عدد من مناطق العالم، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط. الفرق بين حساب السنين وحساب الأفكار والصراعات، هو فكرة قدمها المؤرخ الأشهر فى القرن العشرين، إيريك هوبسباوم، الذى أصر أن أى حقبة زمنية لا تقاس بالسنوات، وإنما «بالفكرة والصراعات الأساسية التى طبعت هذه الحقبة وشكلتها». بناء على ذلك مثلا، يتحدث هوبسباوم عن «القرن التاسع عشر الطويل» الذى حكمته فكرة الثورة الصناعية والتطور المتسارع للرأسمالية وما أفرزاه من تشكيل النظام العالمى بالمعنى الذى نعرفه اليوم. ويمتد هذا القرن الطويل، وفقا لهوبسباوم، من الثورة الفرنسية عام 1789 (أى قبل أكثر من عقد من نهاية القرن الثامن عشر بحساب السنين) وإلى نهاية الحرب العالمية الأولى (أى فى العقد الثانى من القرن العشرين). أما القرن العشرين، فيرى هوبسباوم أنه كان «قرنا قصيرا» حكمه «الصراع بين الرأسمالية والشيوعية» وقد بدأ هذا القرن مع الثورة الاشتراكية الروسية عام 1917، وانتهى بسقوط الاتحاد السوفييتى عام 1991. بنفس المنطق، يمكن القول بأن الولاية الأولى لأوباما حكمتها فكرة أساسية هى «المصالحة مع العالم، وإصلاح ما أفسده بوش الابن». وقد شاءت الظروف أن تكون هذه «الولاية الأولى» مكثفة وحافلة بالتطورات الخاطفة، المتمثلة فى سلسلة سريعة ومبهرة من «الخطابات الانفتاحية» التى ألقاها أوباما فى مختلف أنحاء الكرة الأرضية، ورسائل التهانى فى الأعياد التى بعثها لخصومه مادا يده إليهم، ومبعوثين من أوباما لمختلف مناطق العالم لمحاولة المساعدة على بناء السلام والاستقرار أشهرهم فى منطقتنا هو جورج ميتشل، الذى قام بتسع زيارات للمنطقة فى الأشهر العشرة الأخيرة بحثا عن صيغة لإحياء مفاوضات السلام. وتكللت هذه الخطوات المدهشة، بجائزة أكثر إثارة للدهشة، هى جائزة نوبل التى حصدها أوباما قبل انقضاء عشرة أشهر على ولايته. وذهل المراقبون الذين تساءلوا عن الإنجاز الذى استحق به أوباما الجائزة، ولم ينتبهوا إلى أن «الولاية الأولى لأوباما» كانت مخصصة لحملة علاقات عامة لتحسين صورة الولاياتالمتحدة، وجاءت الجائزة لتعلن أن الهدف قد تحقق على الأقل من وجهة نظر كل من نخبة الحكم الأمريكية، ومانحى جائزة نوبل. يمكن بطبيعة الحال الاشتباك مع منطق منح الجائزة، والتشكك فيما إذا كان هدف «تحسين صورة الولاياتالمتحدة» قد أنجز بشكل مرض. هذه أسئلة مشروعة، ولكنها ليست شديدة الإلحاح. السؤال الأكثر إلحاحا هو: أما وقد انتهت هذه المهمة، وانتهت معها بحساب الأفكار الولاية الأولى لأوباما، ماذا بعد؟ ما هى أجندة أوباما فى مرحلة «ما بعد العلاقات العامة»؟ وما هى مناطق الالتقاء والاشتباك معها. *** تأتينا الإجابة على الفور فى صورة ثلاثة تطورات خطيرة، قامت بها إدارة أوباما فى مرحلة ما بعد نوبل، هى: أولا: توسيع رقعة الاشتباك فى كل المعارك التى ورثها أوباما عن سلفه بوش الابن، فبرغم التصريحات الوردية حول استكمال الانسحاب من هذه المعارك خلال عامين، جاءت التطورات الميدانية لتحمل زيادة كبرى فى حجم القوات الأمريكية العاملة فى أفغانستان، وإشارات مبهمة من الجنرال ديفيد بترايوس، قائد المنطقة المركزية درة التاج فى مناطق عمليات الجيش الأمريكى، إذ تغطى المساحة من أفغانستان إلى اليمن حول ارتباط الانسحاب الأمريكى فى العراق بتحقيق «تقدم ملموس» فى العملية السياسية بشكل يضمن «المصالح الأمريكية» (وليلاحظ القارئ كم الإبهام فى هذه المصطلحات، وما يفتحه من مجالات لإطالة أمد الوجود الأمريكى فى العراق). ثانيا: لم يقتصر الأمر فقط على توسيع الاشتباكات الموروثة من إدارة بوش الابن، وإنما بدت مؤشرات جدية على إمكانية فتح جبهات إضافية، من التصريحات المبهمة والمتناقضة لأركان الإدارة الأمريكية حول نوعية وحجم التدخل الأمريكى فى «الجبهة الجديدة للحرب على الإرهاب» فى اليمن، وصولا إلى التحذير الصريح على لسان الجنرال بترايوس من أن جميع الخيارات للتعامل مع الملف الإيرانى بما فيها الخيار العسكرى، حسب النص الحرفى لتصريحه تظل قائمة. بهذا، وبصرف النظر عن التصريحات وشعارات «التغيير» التى أطلقت فى «مرحلة العلاقات العامة»، يبدو واضحا أن ثمة ثابت أساسى تشترك فيه إدارة أوباما مع أسلافها، وهى ببساطة الالتزام بقاعدة أن «لكل رئيس أمريكى حرب أساسية شنها فى عهده»، وهى قاعدة لم يشذ عنها أى رئيس أمريكى منذ فرانكلين روزفلت، ولا يبدو أن أوباما برغم تصريحاته الوردية سيمثل الاستثناء الأول لها. ثالثا: فى مواجهة هذا «التحرك الخارجى الذى لم يخل من تشدد»، كانت الساحة الداخلية محل مهادنة غير متوقعة مع اليمين الأمريكى، تجسدت فى التنازلات التى قدمتها إدارة أوباما للمعارضة اليمينية فى ملفات داخلية حيوية كالتأمين الصحى، وبرنامج الإنفاق العام، ونوعية الإجراءات المطلوبة لمعالجة تداعيات الأزمة المالية الكبرى. أهناك رابط بين هذه المهادنة فى الداخل والتشدد فى الخارج، أكثر من مجرد الشكوى من أن أوباما لم يكن «عند حسن الظن به»؟ تأتى الإجابة من إشارة المراقبين إلى أن برنامج الإنفاق العام الضخم المطلوب للخروج من الركود الاقتصادى، إذا لم يوجه للداخل الأمريكى (كما كان الحال فى «الصفقة الكبرى» التى قدمها فرانكلين روزفلت للخروج من الكساد الكبير) يجب أن يتجه إلى برنامج إنفاق عسكرى كبير لإنعاش الاقتصاد الأمريكى من الخارج (كما كان الحال فى إدارة ريجان وسباق التسلح الذى أثاره ببرنامج «حرب النجوم» ومغامراته العسكرية العديدة التى ساعدت بصرف النظر عن الرأى فى أخلاقيتها فى مواجهة أزمة كساد السبعينيات وتبعات صدمات البترول الشهيرة فى أعقاب حرب 1973 والثورة الإيرانية). أضف إلى ما سبق، أن الاختبارات الجدية لإدارة أوباما على الصعيد العالمى (قمة كوبنهاجن لمواجهة ظاهرة «الاحتباس الحرارى» مثلا) أظهرت عدم مبالاة هذه الإدارة بشعارات «التوافق العالمى بدلا من المواجهة»، وعدم استعدادها لتقديم تنازلات جدية «للشركاء» الذين مد لهم أوباما يده حاملا غصن زيتون فى «مرحلة العلاقات العامة». التشابه هنا مع الإدارات السابقة كان أكثر من الاختلاف بكل تأكيد. أما تفاؤل أوباما ومبعوثه للشرق الأوسط جورج ميتشل بإمكانية تحقيق السلام خلال عام، فقد أسفرا بعد تسع جولات للمبعوث عن تبنى الموقف الإسرائيلى المطالب باستئناف المفاوضات «بدون شروط» (اقرأ: بدون أى تنازل إسرائيلى مهما كان مؤقتا، كتجميد الاستيطان). مرة أخرى، ما أشبه الليلة بالبارحة. الخلاصة؟ أن مرحلة العلاقات العامة قد انتهت، وبدأت مرحلة حبلى بمواجهات عسكرية وسياسية ستكون منطقتنا فى قلبها. الإدارة الأمريكية قدرت بعد نوبل أوباما أن «شهر العسل الدولى» آن له أن ينتهى، وبدأت تتصرف على هذا الأساس. أما فى مصر، فالمدهش حقا هو عدد من ما زالوا يتغنون «بالتغيير»، ويعيشون فى وهم «استمرار شهر العسل» حتى بعد أن نزعت الولاياتالمتحدة قفاز «التغيير» المخملى، وعاد وجه «مصلحة الدولة العظمى» ليطل مجددا، عاريا من كل المساحيق التى ميزت «ولاية أوباما الأولى».