من المقرر أن يقوم إيهود باراك وزير دفاع إسرائيل بزيارة اليوم الأحد إلى تركيا، رغم محاولات وزير الخارجية المتطرف ليبرمان للحيلولة دون إتمام هذه الزيارة، فى إطار توجه بدأه قبل فترة وجيزة منذ أن دعا سفراء إسرائيل بالخارج فى مؤتمرهم السنوى إلى اتباع ما سماه بدبلوماسية «الفخار الوطنى»، التى أدى تنفيذها الأسبوع الماضى إلى الحلقة الأحدث فى سلسلة التراشق اللفظى واللغة المشحونة بالتوتر بين تركيا وإسرائيل انتهت بانصياع إسرائيل لمطالبة تركيا لها بالاعتذار الرسمى عن إهانة نائب وزير خارجية إسرائيل لسفير تركيا لديها. مسلسل التدهور فى مناخيات العلاقات التركية الإسرائيلية اتخذ المنحنى الراهن منذ شطط إسرائيل فى عملياتها العسكرية فى غزة ديمسبر 2008 يناير 2009، وجرائمها ضد الفلسطينيين التى أدانتها تركيا بقوة على مستويات عديدة. وتلاه مباشرة الموقف الذى اتخذه رئيس الوزراء التركى فى مناظرة مع رئيس جمهورية إسرائيل على هامش مشاركتهما فى اجتماعات دافوس عندما غادر القاعة احتجاجا على عدم إعطائه حق الرد على شمعون بيريز الذى كان يعقب بحدة على الانتقادات اللاذعة التى كان إردوغان قد وجهها لعمليات إسرائيل فى غزة واستخدامها المفرط للقوة ضد الفلسطينيين، ثم سحبت تركيا دعوتها لإسرائيل للمشاركة فى التدريبات الجوية الكبرى المعروفة باسم «نسر الأناضول»، الأمر الذى أدى إلى تأجيل عقد هذه التدريبات. اللافت للنظر فى المواقف التركية المتعاقبة، هو أنها لم تعد مجرد تعبير عن سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية، وإنما بدأت تجتذب قدرا ملموسا من التوافق الوطنى حولها، فلم تكن الحكومة لتستطيع اتخاذ قرار التدريبات الجوية دون موافقة المؤسسة العسكرية صاحبة النفوذ القوى فى تركيا، والموقف الصارم من معاملة السفير التركى بازدراء فى القدس عبرت عنه بلغة متشابهة كل ألوان الطيف السياسى التركى، وعلى رأسها حزب المعارضة الرئيسى «الشعب الجمهورى». ويتوافق التدهور المناخى فى العلاقات التركية الإسرائيلية، مع نمو متسارع للعلاقات التركية العربية وعلى الأخص مع سوريا، عبرت عنه مظاهر عديدة كان من أحدثها التوقيع على خمسين اتفاقية ومذكرة تفاهم خلال زيارة رئيس الوزراء التركى لدمشق فى ديسمبر 2009 (بعد أن كان البلدان على شفا الحرب فى خريف 1998 بسبب المسألة الكردية لولا وساطة الرئيس مبارك!) وسياسة جديدة لتحقيق الوفاق مع جيران تركيا، كان أبرز ثمارها مؤخرا التحرك لتطبيع العلاقات مع أرمينيا. طوال عام 1992 احتفلت تركيا وإسرائيل بمرور خمسمائة سنة على لجوء يهود الأندلس إلى الدولة العثمانية عام 1492 هربا من الفظائع التى كانت ترتكب ضدهم لإجبارهم على اعتناق المسيحية، حيث استقر أكثر من 150000 منهم فى اسطنبول وتسالونيكى ويبقى منهم فى تركيا حاليا أقل بقليل من 30.000 وقد كان استقبال الدولة العثمانية للاجئين اليهود تصرفا طبيعيا ينسجم مع سماحة الإسلام الذى كانت تلك الدولة ترفع آنذاك لواءه، وكان أيضا الرمز الأبعد فى التاريخ للعلاقة بين الأتراك وبين اليهود قبل قرون من نشأة أى من الدولتين، ثم عادت تركيا فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، لتكون المعبر الآمن الذى سلكه آلاف اليهود خلال هروبهم من بطش ألمانيا النازية. فى مارس 1949 كانت تركيا الدولة الإسلامية الأولى التى تعترف بإسرائيل وتبادلت العلاقات الدبلوماسية معها بعد ذلك بنحو عام، على أمل الحصول على مساندة اليهود الأمريكيين فى إقناع صاحب القرار الأمريكى بأخذ المصالح الأمنية لتركيا بعين الاعتبار بعد أن أدى الجوار الطويل مع الاتحاد السوفييتى الذى أسفرت عنه الحرب العالمية الثانية، إلى إصابة النخبة السياسية العسكرية التركية بالذعر، ولو أن تركيا تمكنت بعد ذلك من اختصار الطريق بالدم للدخول فى حلف الأطلنطى عندما شاركت فى قوات الأممالمتحدة فى كوريا تحت قيادة الولاياتالمتحدة حيث تعرضت وحدتها المشاركة فى الحرب لأعلى معدل للخسائر البشرية بين القوات المتحالفة. عبر مراحل ما كان يعرف بنزاع الشرق الأوسط كانت علاقات تركيا وإسرائيل تتراوح برودة وسخونة حسب تطور العلاقات فيما بين أطراف النزاع وبعضها البعض وحسب اتجاهات التوليفة الحاكمة فى أنقرة، مع عدم استبعاد تأثير الولاياتالمتحدة الحليف الرئيسى لتركيا. ودون إغفال تبعات التحالفات الدولية للدولتين العربيتين المجاورتين لتركيا: العراق وسوريا مع الاتحاد السوفييتى من جانب، وتركيا وإسرائيل مع الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة من جانب آخر ، يلزم أن نأخذ فى الحسبان الجوانب النفعية فى معادلة تركيا العرب إسرائيل، خصوصا بعد 1973 وبدء تراكم البترودولارات لدى الدول البترولية العربية. مع انطلاق عملية السلام العربية الاسرائيلية فى آخر أكتوبر 1991 وتحقيقها لقدر من التقدم على المسارين الفلسطينى والأردنى بدأ الأتراك يتخففون من أستار السرية التى كانوا يحرصون على إخفاء علاقات بلادهم وإسرائيل وراءها، ورُفع عن ساستهم الحرج الذى كانت تلك العلاقات تسببه لهم إزاء ناخبيهم، وفى نوفمبر 1993 قام حكمت شتين بأول زيارة يقوم بها وزير خارجية تركى لإسرائيل، توالت بعدها الزيارات المتبادلة وارتفعت إلى مستوى القمة، وفى فبراير 1996 وقع الجانبان اتفاقا للتعاون فى ميدان التدريب العسكرى تلاه اتفاق آخر فى ميدان التصنيع الحربى أثارا زوبعة من الانتقادات فى العواصم العربية لم تلبث أن أخذت فى السكون بعد أن صرح الرئيس مبارك أثناء زيارته لتركيا فى يونيو 1996 بأنه اطمأن إلى تأكيدات الرئيس ديميريل بأن العلاقات بين تركيا وإسرائيل ليست موجهة ضد طرف ثالث. وقد أدى توقيع البلدين عام 1996 لاتفاقية التجارة الحرة، إلى تسارع نمو المبادلات التجارية وكذا جميع المؤشرات الرقمية للعلاقات بينهما. لم تكن المسألة الفلسطينية وحدها هى السبب الوحيد فى توتر العلاقات التركية الاسرائيلية من آن لآخر، مثلما حدث فى مايو 2000 نتيجة قيام اثنين من أعضاء مجلس الوزراء الإسرائيلى بإصدار تصريحات مؤيدة لدعاوى الأرمن عن قيام الامبراطورية العثمانية بارتكاب جريمة إبادة جنس الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى ومثلما حدث بعد الغزو الأمريكى للعراق على خلفية كردية وتفاقم فى منتصف العقد الحالى بعدما تردد وجود تعاون بين إسرائيل وبين الأكراد فى شمال العراق مما اضطر نائب رئيس الوزراء الإسرائيلى آنذاك إيهود أولمرت إلى نفيه خلال زيارته لتركيا فى يوليو 2004 (التى لم يستقبله خلالها رئيس الوزراء أردوجان). فيما نرى فإن العلاقات التركية الإسرائيلية لم تكن أبدا علاقات تحالف حيث إن أيا منهما لا يرغب فى إثقال نفسه بعداءات الطرف الآخر، ويلزم أن نستذكر موقف إسرائيل إبان تصاعد الأزمة التركية السورية فى أكتوبر 1998 إلى حد الوقوف على حافة الحرب عندما أعلنت إسرائيل رسميا أنها ليست طرفا فى تلك الأزمة بل وقامت بتخفيف كثافة قواتها على الخطوط مع سوريا، كما أن العلاقات التركية الإسرائيلية لم تمنع إسرائيل من تطوير علاقاتها مع اليونان وقبرص (اليونانية) إلى حد توقيع اتفاقيات عسكرية مع اليونان مماثلة لما وقعته مع تركيا وتبادل الزيارات على أعلى المستويات مع البلدين حتى قبل بدء الانفراج بين تركيا واليونان. ومع نجاح حزب العدالة والتنمية فى تولى السلطة منفردا منذ نوفمبر 2002 حتى الآن عقب نحو عقدين من حكومات ائتلافية لم تكن تقدر سوى على القاسم المشترك الأدنى بين أحزابها، فإن الموقف التركى إزاء قضايا المنطقة أخذ يعكس الفلسفة السياسية للحزب الحاكم، منذ أن رفضت حكومة العدالة والتنمية بعد أشهر قليلة لها فى السلطة، السماح للولايات المتحدة باتخاذ قواعد فى تركيا لفتح جبهة شمالية فى العراق عام 2003، مراعاة لرؤى قواعد الحزب وتوجهات الرأى العام التركى. ومع تعثر مفاوضات الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبى، لم يعد تحقيق اعتراف الاتحاد «بأوروبية تركيا» الهدف الأسمى للسياسة الخارجية التركية التى أخذت بالتالى تستجيب لمقتضيات الجغرافيا السياسية للبلاد ومطالب الرأى العام فيها. ستظل لإسرائيل مكانتها فى خريطة السياسية الخارجية التركية، تمشيا مع رغبات الولاياتالمتحدة، ولأهمية اللوبى اليهودى فى واشنطون لموازنة تأثير جماعات الضغط المعادية لأنقرة، فضلا عن قيمة إسرائيل كمصدر للتكنولوجيا العسكرية المتطورة على خلفية تاريخ تعرضت فيه تركيا مرارا لحظر توريد السلاح من الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية الكبرى بدعاوى انتهاكها لحقوق الإنسان أو لموقفها من المسألة القبرصية، وبالتالى يبقى من الوارد أن يعود إيهود باراك من رحلته لأنقرة بعقد أو أكثر لتوريدات حربية.