تعليقا على ما جاء فى رسالة «شاهد ملك» التى أثار فيها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل العديد من التساؤلات حول ما أورده د.مصطفى الفقى رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشعب فى حوار صحفى، قال فيه إن «الرئيس القادم لمصر يحتاج إلى موافقة أمريكا وعدم اعتراض إسرائيل»، يرى د.صلاح عبدالكريم القيادى بحزب الوسط تحت التأسيس ووكيل نقابة المهندسين السابق أن اهتمام أمريكا بمن يحكم مصر هو من طبائع الأمور ومن صميم الحفاظ على مصالحها، مضيفا أن «أى حاكم يتصرف بأسلوب لا يلاءم مصالح تكتل الطاقة العالمى سيواجه ما يكره». وتساءل إذا كنت فى مكان القوة العالمية الكبرى فمن تفضل؟.. شريكا مشاكسا حتى وأن كان صغيرا أم تابعا مطيعا يسمع الكلام وينشغل بالمغانم الشخصية، وليست لديه القدرة على التفكير والإبداع؟! وأضاف عبدالكريم فى مقال خص به «الشروق» إن الأداء السياسى والاقتصادى التركى لهو شهادة على أنه من الممكن أن تكون لنا علاقات قوية بالدول الكبرى لكن بأداء وشروط أفضل من شروط المستسلمين تماما كأن بعضهم يعتقد أن فى الاستسلام التام نجاة.. وأظن أن هذا هو مقصد الأستاذ هيكل. وأعاد عبدالكريم صياغة أسئلة الأستاذ هيكل بصورة أكثر وضوحا، وقال: «من الذى أوصلنا لهذا وكيف وصلنا لهذا؟ وما السبيل لعلاج هذا الوضع بصورة ماهرة وناضجة وذكية تبنى ولا تهدم؟». وإلى نص المقال: أثارت التساؤلات التى وجهها الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل تعليقا على ما ورد فى حوار صحفى مع الدكتور مصطفى الفقى شجونا كثيرة. ليس لأنها صدرت من أحد أهم مفكرى الحقبة الناصرية الاشتراكية تعليقا على تصريح يبدو أنه أفلت من أحد أهم رجال الحقبة الليبرالية الحالية (قال فيه: لا أعتقد أنه سيأتى رئيس قادم لمصر وعليه فيتو أمريكى ولا حتى اعتراض اسرائيلى للأسف)، ولكن لأن التساؤلات صيغت على ما يبدو بأسلوب مبهم قد لا يدرك مغزاه الكثيرون. لقد ذكر الأستاذ هيكل فى أحد كتبه واقعة ذات دلالة فى هذا السياق: أنه عندما تنامى إلى أسماع الملك فاروق أظن فى عام 1942 أن تشرشل رئيس الوزراء الإنجليزى موجودٌ فى القاهرة لمتابعة وقائع الحرب فى شمال أفريقيا، طلب من السيد مايلز لامبسون المندوب السامى البريطانى فى ذلك الوقت موعدا لمقابلته. وفى يوم الموعد تأخر السير لامبسون فى مهمة خارج القاهرة ونسى أن يرتب مع الحراس السماح للملك بالدخول إلى حضرة رئيس الوزراء عند حضوره. ولكنه تنفس الصعداء عندما عاد بُعَيدَ وصول الملك ووجد أن رئيس الحرس كان من الحصافة أن سمح للملك بالدخول لما تأكد من أن هناك موعدا مع تشرشل. ودخل السير لامبسون وجلس برهة ثم أشار إلى الملك بانتهاء (هكذا تقريبا بتعبير الأستاذ هيكل) اللقاء ليترك تشرشل لمتابعة شئونه. ورغم هذا، فلم تمض أعوام حتى قامت حركة الضباط الأحرار، ولم تحرك الإمبراطورية البريطانية ساكنا لمواجهتها رغم وجود مائة ألف جندي لها مدججين بالسلاح الحديث فى معسكرات القناة على بعد مسيرة ساعة بالناقلات وأقل من ذلك بالطائرات، وهى لم تتورع عن محاصرة القصر الملكى بالدبابات قبل ذلك بعدة سنوات لإرغام الملك على تكليف النحاس باشا بتشكيل الوزارة. بل ولم يبد الملك أى مقاومة من أى نوع لحركة الضباط الأحرار واستسلم صاغرا للخلع والطرد والنفى رغم وجود الحرس الملكى المكون من أناس يعتبرون الملك وأبوه وجده أولياء نعمتهم ورغم أن تدريبهم وإعدادهم وتربيتهم وتسليحهم كان لمواجهة مثل هذه التمردات. بل ولم يعرف عنه أنه حتى استنجد بالإنجليز! ولكى أحاول أن أكون من ناحية أخرى صورة مفهومة لفلتة لسان الدكتور الفقى، يمكن لنا أن نتساءل: هل تملك دولة عظمى عصرية ترف عدم الاهتمام بمن يرتقى (أو يمهد له ارتقاء) سدة الحكم فى بلد مثل مصر؟ هل يمكن فى عصر تساقطت فيه الحواجز بين الشعوب والدول وتشابكت العلاقات بحيث اتسع نطاق دوائر السيطرة لمن يسعى لأن يسيطر، وأصبح كل شأن داخلى لأى أمة شأنا يهم الآخرين فى الخارج، أن تهمل الدولة العظمى المسيطرة بلدا تعداده يربو على 80 مليونا من البشر جلهم من الشباب والفتيان ولهم أيديولوجية مختلفة بالضرورة، فى وقت تعانى فيه كل الدول القوية والمتقدمة أزمة شيخوخة وانخفاض فى معدل المواليد؟ وهل يمكن نسيان أن مصر تعتبر مصدر إلهام لكل الشعوب الإسلامية فى العالم بسبب وجود منارة العلم السنى بها، وهى الأزهر الشريف؟ وهل تملك الولاياتالمتحدة ترف إهمال بلد ذى موقع جغرافى بالغ الأهمية ويقع فى قلب المنطقة العربية، التى تتحدث بلغته ويعتبر الزعيم الطبيعى لشعوبها؟ وإذا كانت الدول العربية ومنها مصر تسعى (رغم ضعف الجميع) لتكوين جماعة ضغط سياسية وشعبية فى أمريكا (Lobby) للترويج لمصالحها، أفلا نعطى لأمريكا الحق فى أن تسعى على قدر طاقتها العظيمة للضغط لتحقيق مصالحها فى كل أنحاء العالم بما فيه مصر، وخصوصا وأن الجميع يعلمون أنها بقوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية لا تخفى إرادتها لترتيب أحوال العالم بصورة مواتية لمصالحها. إذا سلمنا بهذا، وأمعنا النظر فى الأحوال الإقليمية والعالمية، فإننا نجد ما يلى: هناك ما يزيد على ألف قاعدة عسكرية أمريكية فى كل أنحاء العالم تقريبا وخصوصا حول مصادر الثروات الطبيعية وكل المسارات التجارية البرية والبحرية ناهيك عن الجوية. وهناك وجود عسكرى ضارب فى الجو والبحر، بالإضافة طبعا إلى إسرائيل. أنشأت القوى النافذة الغربية إسرائيل لأهداف جيوسياسية وأيديولوجية، وكانت من الدهاء بحيث استخدمت فى تنفيذ مخططها جماعة وظيفية (بتعبير الدكتور المسيرى رحمه الله، وهم اليهود) لها أهداف خاصة وعقيدية تجعلهم يتفانون فى إنجاح المشروع لصالح الجميع. وكل رئيس جديد لمصر، حتى وإن كان من داخل النخبة السياسية سوف يكتشف أحوالا تصيب بالدهشة كل من يعرفها لأول مرة، منها: اعتماد مصر على استيراد نسبة كبيرة من احتياجاتها من السلع الغذائية الأساسية خصوصا القمح، كما أن الاحتياطى الموجود يكفى بالكاد لعدة أسابيع بحيث يكفى تلكؤ ناقلة كبيرة فى عرض البحر لإحداث أزمة. يجرى استكشاف (بل وربما اكتشاف) واستخراج وبيع البترول والغاز بواسطة شركات غربية وعالمية تعتبر جزءا من تكتل الطاقة فى العالم. وبسبب مصالح هذا التكتل وتحت ضغطه، غزت الجيوش الأمريكيةأفغانستان والعراق وأنشأت قواعد عسكرية فى كل الأماكن الحساسة له. بل إننى أدعى أنهم لا يستخرجون البترول أو الغاز إلا بعد فرض إرادتهم بخصوص أوجه التصرف فيه. وأى حاكم يتصرف بأسلوب متهور لا يلائم مصالح هذا التكتل سيواجه ما يكره. منذ أن اتجه النظام المصرى غربا، تم اتباع تعليمات البنك الدولى وصندوق النقد (وهى بالمناسبة منظمات تم إنشاؤها عام 1945 للإشراف على فرض السيطرة الاقتصادية والمالية لأمريكا، التى خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية) بحذافيرها، وتم إلغاء كثير من الضوابط وتحرير السوق المالية بهدف تحقيق الشفافية والحرية والليبرالية الاقتصادية بصورة جعلت الاقتصاد المصرى تحت رحمة المضاربين العالميين تماما، وهم ذراع مهم من أذرع فرض السيطرة والنفوذ للدول الكبرى عن طريق الاستيلاء على الثروات القومية. وما يحدث فى البورصات المالية من انهيارات دائمة، وانتقال مستمر لملكية المؤسسات الاقتصادية الوطنية للنخب المحلية ثم للأجانب إلا نتيجة طبيعية لسياسات فرض السيطرة المالية. تم تجديد معظم محطات توليد الطاقة بما فى ذلك محطات السد العالى بأخرى حديثة لدرجة أنه يمكن التحكم فيها عن بعد (وهذه مواصفات قياسية طبيعية فى كل الآلات الحديثة)، وذلك لمتابعة أدائها وإصلاح أى خلل طارئ، وربما التدخل فى عملها أو تعطيلها عن طريق الأقمار الصناعية. وهذا معروف للمتخصصين. تعتبر مصر من أكثر الدول تلقيا للمعونات الأمريكية بعد إسرائيل. ومعلوم أن أوجه صرف المعونات تصممها الدول المانحة عادة لتحقيق مصالحها، وخصوصا لضمان استمرار الاحتياج إلى المعونة، مثلا عن طريق التأثير سلبا على نمو الصناعة الوطنية. إن تعطيل وصول المعونة ولو عن طريق بعض التعقيدات البيروقراطية أمر ممكن حتى دون اللجوء إلى إصدار قرار سياسى أو سيادى، بصورة يعرفها كل من عمل فى جهاز حكومى أو حتى شركة خاصة. ومن المعروف للجميع أن اليد العليا لها دلالها ولو لم تطلب. بعد انتشار شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية، وربط الدنيا وكل إنسان عن طريق الجوال والإنترنت، فإن الحياة كما نعرفها يمكن أن تتعرض للفوضى أو تصاب بالشلل التام، مثلا إذا انقطع فجأة كابل بحرى لا يعرف أحد كيف وضع ولا أين هو ولا كيف قطع ولا كيف يتم إصلاحه، بل وهل قطع فعلا أم قطعت عنه الحرارة! كما حدث من قبل. بل إن شبكة الإنترنت وال (GPS) وكذا (Google Earth) رغم أهميتهم وفائدتهم لنا نحن العامة، تعنى أيضا أن الجميع منكشفون أمام من يسيطر على هذه التكنولوجيا بصورة لم تحدث من قبل فى التاريخ البشرى. بعد تطوير تسليح الجيش المصرى، وكذا تطوير ما بقى من الصناعات الأساسية والثقيلة وتحول مصادرها الأساسية من الشرق إلى الغرب بسبب علاقة الدعم والمعونة المخططة واحتوائها بحكم تقدمها على نسب متزايدة من الأجزاء الإلكترونية المعقدة، زادت أهمية انتظام الإمداد بقطع الغيار اللازمة لاستمرار الأداء المطلوب لتلك الأسلحة والآلات والمعدات، بحيث إنه فى غضون أشهر قليلة يمكن أن تتحول كلها إلى هياكل معدنية هامدة يأكلها الصدأ إذا ما تأخر عنها إمداد قطع الغيار. لم يحدث من قبل حتى فى أيام الاحتلال البريطانى أن كانت إمدادات مصر من المياة وأمنها الجنوبى معرضة لأخطار قد تصيبها بالاضطراب كما يحدث الآن. وهناك دلائل تشير إلى أن الدول الكبرى ومعها إسرائيل تقوم بترتيبات فى أفريقيا وجنوب البحر الأحمر لأسباب تراها لصالحها لا ترغب فى أن يعكرها تدخل أحد. وفى هذه الأثناء وبحجج كثيرة مثل حرية الإبداع وما شابه تنتشر فى الأمة ثقافة الترفيه الفنى والرياضى على حساب ثقافة العمل والاجتهاد بصورة لا تجدها فى أى من الأمم، التى بنت أو تبنى نفسها وخصوصا الصين. إذا كنت فى مكان القوة العالمية الكبرى فمن تفضل؟ أتفضل شريكا مشاكسا مستقلا (حتى وإن كان صغيرا) أم تابعا مطيعا يسمع الكلام وينشغل بالمغانم الشخصية وليست له قدرة لا على التفكير المستقل ولا على الإبداع وأخذ زمام المبادرة ولا على حتى تنفيذ أى شىء (بيعُك كل حاجة)؟ إن علماء السياسة والحكومة يقولون منذ عقود أنه قد أعيد تعريف نطاق سيادة الدول القومية وخصوصا الضعيفة منها مع العولمة وسقوط الحواجز وزيادة دوائر اهتمام الدول الكبرى لتشمل كل شىء وكل مكان. من هذا الباب نقول إن اهتمام أمريكا بمن يحكم مصر هو من طبائع الأمور فى ضوء الواقع الذى بينا بعضه، ومن صميم حفظ المصالح. كما أن إثارة حفيظتها فى هذا الصدد أو فى غيره سيؤدى بها إلى أن تتصرف فى حدود قدرتها ونظرتها للأمور لحفظ ما تراه فى مصلحتها ودرء ما تراه يُهدد مصالحها بصورة قد تكون ضارة بالمصالح القومية. ويمكننى القول إن الأستاذ هيكل لديه من العلم والخبرة ما يجعل كل ما قلت ليس بالجديد عليه. ولكننى أفهم من أسئلته أنه لا يوافق على طريقة التعامل والتعاطى مع هذه الظروف المحلية والعالمية. أليس من الممكن (والسياسة هى فن الممكن) أن تكون مصر أكثر فاعلية فى المجتمع الدولى؟ إن الأداء السياسى والاقتصادى التركى لهو شهادة على أنه من الممكن أن تكون لنا علاقات قوية بالدول الكبرى يستحيل فصمها، ولكن بأداء وبشروط أفضل من شروط الذين يستسلمون تماما كأن بعضهم يعتقد أن فى الاستسلام التام نجاة. وأظن أن هذا هو مقصد الأستاذ هيكل. وهنا يمكن إعادة صياغة أسئلة الأستاذ هيكل بصورة أكثر وضوحا: من الذى أوصلنا لهذا؟ وكيف وصلنا لهذا؟ وما السبيل لعلاج هذا الوضع بصورة ماهرة ناضجة وذكية تبنى ولا تهدم؟