هو جمال الدين الأفغانى (1838 1897)، ولايزال هناك اختلاف حول مولده ونشأته فيما بين فارس (إيران) وأفغانستان. وقد ارتبطت هويته الإسلامية بالسياسة، فى وقت اشتدت فيه قبضة بريطانيا الإمبريالية على الهند وآسيا الوسطى، ووضح فيه صراعها مع روسيا، ومن ثم أصبح وجوده فى أفغانستان يمثل قلقا لها، فأخرج منها، وطرق باب مصر، ولم يمكث إلا قليلا، وخرج منها قاصدا إستانبول، لكنه عاد إليها عام 1871 بنية الاستقرار بها، وتوافق ذلك مع استقبال مصر للوافدين عليها، إذ رحب الخديو إسماعيل به تبعا لسياسة الانفتاح التى انتهجها، ومن منطلق المساهمة فى مشروعه التحديثى الذى دخل تحت جناحيه الاهتمام بالبشر والحجر، أى هؤلاء المثقفين من مفكرين وعلماء الذين ينمّون العقول ويشيدون العمران، وليس معنى ذلك أنه أهمل أهل البلاد، فنحن نعلم تماما ما بذلوه من أجل نجاح المشروع. كانت بداية نشاط الأفغانى فى مصر داخل الأزهر، فطبق منهجا جديدا بعد عن الجمود والتعقيد، فدرس العلوم التى وكلت إليه برؤية مختلفة، وكان لذلك رد فعله من ناحيتين: الأولى، التفاف الطلبة حوله، والذين لم يكتفوا بالدروس داخل الأزهر، وإنما لاحقوه خارجه، حيث اتفق ما يتلقوه منه مع هواهم سواء فيما يتعلق بالعلوم الدينية أو يختص بإصلاح المجتمع. أما الثانية، فهؤلاء المشايخ الذين وجدوا أن الخطر يكمن فى استمراره، ورأوا فيه الإلحاد بعينه، كما نعتوا تلاميذه بالصفة نفسها. عندئذ أيقن الأفغانى أنه لابد من ترك الأزهر كمبنى، وأن يجعل من بيته بحارة اليهود وقهوة متاتيا بالعتبة الخضراء وتقعان فى بيئة تجارية وشعبية المكان البديل، ليواصل رسالته التى اتخذت منحًى مهما، كان عماده التغيير الذى يعتمد على الناس مستخدما القول الكريم «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، وطرح الوسائل التى تمثلت فى العلم والثقافة والعقيدة الصحيحة والاتحاد، وربط ذلك بمقاومة النفوذ الأجنبى الذى خبره وعاش فى كنفه، مصرحا بأنه بالتحرر منه والاستقلال عنه، يكون التغيير قد نجح. وحشدت لقاءاته بالمريدين والمحبين والتلاميذ الذين تنوعت انتماءاتهم الاجتماعية، وإن جمعتهم الثقافة وحب المعرفة، بالإضافة إلى ما طرأ على مصر وقتئذ، حيث فتحت نوافذها، وسرت الرغبة الجارفة فى الحصول على الحرية. وأخذ الرأى العام مكانه بعد أن تبلور لعوامل كثيرة، كان وجود الأفغانى من أهمها، وقد تمتع بشخصية كاريزمية، إذ اعتمد على التبسيط فى معلوماته، وشد انتباه المستمعين له بالموضوعات التى تطرق إليها، حدثهم عن الحاكم الأوتقراطى والحكومة المستبدة، وأن الأمة مصدر السلطات التى فرق بينها، وأنه لا يجب أن تطغى إحداها على الأخرى. وتناول قضايا العدالة الاجتماعية، وأن الإنسانية تجمع الأفراد الذين هم سواسية، خلقوا من طين واحد، وأن ما يميز الواحد عن الآخر هو عمله النافع لوطنه وليس ماله أو جاهه أو طبقته، أيضا استعرض أنظمة الحكم، وفضل النظام الجمهورى لاعتماده على الشورى، موضحا أن المجالس النيابية الحقة هى النابعة من الأمة والبعيدة عن صناعة الحاكم، وقد قصد مجلس شورى النواب الذى أنشأه إسماعيل. وتدريجيا مضى فى حث المحلقين حوله على الثورة، ومعروفة أقواله فى هذا الصدد، فيذكر «أنت أيها الفلاح المسكين، تشق قلب الأرض لتنبت به ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك، لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك». ويتابع «أنتم يا معشر المصريين قد نشأتم فى الاستعباد، وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة (الهكسوس) حتى اليوم، وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتكم الحيف والجور». لقد جمع صالون الأفغانى علية القوم، هناك البارودى وأحمد خيرى ومصطفى وهبى وعبدالسلام وإبراهيم المويلحى ولطيف سليم وسعيد نصر، وهناك الشباب مثل محمد عبده وسعد وفتحى زغلول وإبراهيم اللقانى وعلى مظهر وسليم نقاش وأديب إسحق (المسيحى) وعبدالله النديم ويعقوب صنوع (اليهودى) وعبدالكريم سلمان وعبدالله فكرى، وأيضا انضم لمجالسه من عامة الناس. وألقى على عاتق هؤلاء جميعا نقل ما سمعوه إلى ذويهم وجيرانهم وسكان أحيائهم، بعد أن استنارت عقولهم وتفتحت أبصارهم على ما هو سائد فى المجتمع من مساوئ. وراح الأفغانى يخطب على منابر الجمعيات الأهلية والمسارح، ولم يقتصر الأمر فقط على المحروسة، وإنما كان للإسكندرية نصيبها، وهى المدينة الكوزموبوليتانية، فحدث السكندريين عن العلم والحرية، وشرح لهم كيف علم المصريون الآخرين، وما وصلت إليه مصر من تدهور وانحدار، وسلطة الأجانب القوية، وتلك القيود التى أدمت معصم مصر، وأهمية الدم الجديد فى تولى السلطة. وهنا وعندما أطلق الأفغانى الحبل على الغارب، رأى أنه من الحكمة أن يكون نشاطه من خلال محفل ماسونى، ليمنحه الأمان من ناحية، ويعطيه مزيد الانطلاق من ناحية أخرى. وكان له ما أراد، فأسسه بالإسكندرية، وجعله تابعا للشرق الفرنسى ليتمتع بالحماية الأجنبية، وأصبح ملتقى المثقفين، وانضم إليه الباشوات والنواب وعلماء من الأزهر وتوفيق ولى العهد، وتردد بين جدرانه الشعار الفرنسى «الحرية والإخاء والمساواة» وبالتالى أصبحت الحركة الماسونية فى مصر مقرونة بالحركة الوطنية. وتجسدت رؤية الأفغانى فى قيام حزب وطنى ليضمن وجود حياة نيابية، وأن على المنتمين لهذا الحزب «أن يعلموا أن لا شرف لهم إلا بجنسهم، ولا قوة إلا بأمتهم، ولا فخر إلا بوطنهم». ومن الواضح أن الأفغانى يريد حزبا واحدا يجمع الوطنيين، وبالتالى فالأمر يختلف عن مفهوم النظام الحزبى. وقد أشرف على الجمعية السرية (مصر الفتاة) بالإسكندرية التى تحولت إلى ما يشبه الحزب الذى وصف نفسه بأنه «يرم المدافعة عن الوطن من محتال يداجى، ومغتال يفاجئ، ودخيل يستعلى، ونزيل يستولى، وأنه يبث آراء الحرية، ويجمع كلمة الوطن، ويؤيد شأن بنيه، ويقوم بأمر ذويه». ولم يكتف الأفغانى باللسان، حقيقة أن الكلمة المسموعة لها تأثيرها القوى، وخاصة إذا كانت تخرج ممن يجيد التعبير، ويمتلك أدوات التشويق والإقناع والإثارة، فضلا عن إنها تستقطب أكبر عدد من المستمعين الذين لا يعرفون القراءة، ولكن للقلم كذلك سحره الخاص الذى تسطر كلماته فى الصحافة التى ربط الأفغانى بينها وبين حرية الشعوب، فقال عنها «الجرائد الحرة القائمة بأمر الوطن، الآخذة بأطراف الحق، فإنها تقرب الأقصى باللفظ الموجز، وتنبئ بأخبار السلف، وتبين لنا أحوال جيراننا». وقد أسهم فى نشأة بعض الصحف، واحتضن صحفيين، وسعى لهم عند الحكومة لتمنحهم تراخيص الصدور، وساعد بالأموال، وكتب فيها تحت اسم مستعار (مظهر بن وضَّاح) وأحيان دون توقيع عن الحرية والاستبداد وتقدم الغرب واستنارة الأفكار والشجاعة والقوة والعلم والصناعة والوطنية، وانعطف على المرأة فقال: «إننا لا يمكن لنا الخروج من خطة الخسف والجهل، ومن مجلس الذل والفاقة، ومن ورطة الضعف والخمول، ما دامت النساء محرومات من الحقوق». كان الأفغانى يرى فى الأمير توفيق ولى العهد الأمل المنتظر للتنفيذ العملى لما ينادى به، نظرا لحماسته لدرجة إنه عندما أثيرت مسألة خلع الخديو إسماعيل فى إحدى اللقاءات، كان رأى توفيق القضاء عليه، لكن الأفغانى عارض ذلك وفضل إجراء الخلع، وأن يحل مكانه ولى عهده الذى وعده بإجراء الإصلاحات، وبأنه لن يحيد عن الحكم الدستورى. وصدق الأفغانى وأتباعه ذلك، واتصل بالقنصل الفرنسى وله الموقف المؤيد من الحركة الوطنية وطلب منه المساعدة بعد أن وكَّله المصريون فى هذا الشأن، أيضا سعى لدى شريف باشا لإقناع إسماعيل بالتنازل عن العرش. ولكن عندما تحقق المراد، ذهب الأفغانى ووفده لتهنئة توفيق الخديو الجديد لتحقيق ما اتفق عليه، كانت المفاجأة أن موقف الحاكم قد تغير، حيث تخلى عن ما ارتبط به، بعد أن عقدت العروة الوثقى بينه وبين بريطانيا وفرنسا اللتين وجدتا فى الأفغانى الخطر الكبير على مصالحهما، وذلك بعد أن أصبحت تعاليمه تتردد على الألسنة، بالإضافة إلى خوف توفيق أن يتكرر معه ما حدث مع أبيه. ووجد الترحيب والعون من رياض للتخلص من الأفغانى، رغم إنه أى رياض قد سبق وساعده فى الحضور إلى مصر، ولكن تبدل موقفه بعد تلك الشعبية التى استحوذ عليها الأفغانى، وهذا النشاط المتقدم الذى تعدى الخطوط الحمراء. وأسفرت المجهودات التى ربطت أطرافا متعددة على نفى الأفغانى خارج مصر فى أغسطس 1879، وألزمت الصحافة بنشر الخبر، وعُطلت الصحف التى اعترضت، وكان من حيثيات الإبعاد «أنه من دواعى الأمن والأمان والراحة والاطمئنان وقطع دابر المفسدين». وخرج الأفغانى ولم يعد إلى مصر المحروسة مرة أخرى، وذلك بعد أن أصبح المناخ مهيئا لتغيير كبير عاشته مصر تمثل فى انطلاق الثورة الوطنية (1881 /1882) المعروفة بالثورة العرابية. ولنا أن نُسجل أن توهج الحركة الوطنية قد شاركت فيه أياد كثيرة، حقيقة أن حضور الأفغانى قد ساعد على اشتعال الجذوة، ولكن أرض مصر الخصبة كانت على أتم استعداد لتثمر فى الحال، وذلك عندما صارت الظروف مواتية للتحرك نحو الهدف، بمعنى أن هناك صورة متكاملة مشكلة من قطع الفسيفساء الدقيقة، لكل منها موقعه، تلك التى مثلت أوضح الصور لكفاح مصر فى التاريخ الحديث.