كل ميسر لما خلق له، وقد خُلق الأستاذ بهاء طاهر ميسرا للتاريخ، إنه همه الذى يشغله ولا يصرفه عنه شىء كأن التاريخ يسكن تحت جلده أو كأنه دمه (وإلى أين يمضى هارب من دمه؟ كما قال نزار قبانى). التاريخ الذى يشغل الأستاذ بهاء ليس هو تاريخ قيام وسقوط الإمبراطوريات، ولا ميلاد ورحيل الزعماء، إنه تاريخ «الناس» الذين تقع أحداث التاريخ على حبة قلوبهم، إنه تاريخ المواجع والمسرات يصفيها بفنه القادر من الشوائب ويقطرها برهافة حسه فإذا هى لذة للمتذكرين. كتب الأستاذ بهاء خلال ربع القرن الأخير ست روايات، هى بحسب ترتيب صدورها : شرق النخيل، قالت ضحى، خالتى صفية والدير، الحب فى المنفى، نقطة النور، واحة الغروب. قارئ تلك الروايات سيلمح بلا شك ولع الأستاذ بالتاريخ، فمنذ سقطت مصر فى قبضة الاحتلال البريطانى وإلى أن طالتها حراب التعصب الدينى لم يفلت الروائى الكبير حادثة لها دلالتها إلا وتوقف عندها. أولى رواياته «شرق النخيل» كانت تفسيرا روائيا لما حدث فى صيف العام 1967ثم ما تلى ذلك من مظاهرات طلابية مطالبة بتحرير الأرض من الاحتلال الصهيونى. وما كانت المعركة التى نشبت بين عائلة البطل وإحدى عائلات قريته إلا حيلة روائية لجأ إليها الكاتب ليؤرخ لواحدة من أقسى الأيام التى مرت بها مصر، أيام الهزيمة والأمل المراوغ والضياع الذى تخبط فيه كثير من الناس والعزيمة الأكيدة على محو عار الاحتلال. وإلى تلك الفترة (بدايات عقد السبعينيات) يعود الروائى الكبير فى روايته «نقطة النور» حيث الانتصار الذى جنى ثمرته الذين (هبروا لا الذين عبروا) حيث سطوة شارع الشواربى الذى يعرض البضائع المستورد ويعرى الناس من الستر الجميل الذى عصمهم لسنوات، وحيث المثقف الذى يقرأ اتجاه الريح ويعرف من أين تؤكل الكتف فيقفز إلى السفينة التى يظنها ناجية ويعادى تاريخا وأحلاما وأشواقا طالما حلم بها، بل لا يكاد هذا المثقف يسمع كلمة عن ثورة يوليو حتى يتحسس مسدسه. أما الستينيات (درة القرن كما يراها المفكر جلال أمين) فهى موضوع روايته «قالت ضحى» الراوى المثقف الذى كانت السياسة يوما مأكله ومشربه يركن إلى عمل إدارى بسيط، هاربا من أن يعرفه السلطان أو أن يعرف السلطان. زمن ملتبس يراه الراوى عاريا من زخرفة الشعارات لأنه يؤمن إيمانا لا شك فيه بالحرية التى لن يعوض غيابها الخبز الكثير، إنها الستينيات بأغانى «عبدالحليم» التى يرفع من أجلها صاحب كشك سجائر صوت مذياعه ليؤكد لمن يهمهم الأمر أنه مع الثورة، الثورة التى اخترقتها الأفاعى والحيات، التى تنبت رءوسها كلما قطعت لتسمم الحلم بالعدالة والحرية. أما عصر الأخوة الصادقة فتجد تاريخه مبسوطا فى «خالتى صفية والدير» إنه ذلك العصر البعيد الذى سبق ظهور فضائيات الفتنة وأقلام التناحر الطائفى، بطل الرواية المسلم يتورط رغم أنفه وتحت وطأة تعذيب لا يطاق فى جريمة قتل، فلا يجد مكانا يلجأ إليه طالبا حمايته سوى «الدير» ماذا لو فعلها الآن أحدهم؟ حتما سينتهى الأمر بكارثة تأكل الأخضر واليابس، الروائى الكبير اغترف فى روايته تلك من نبع ذكرياته عن «الصعيد» اللين المتسامح الذى كان يعرف عدوه من حبيبه، كان هذا قبل أن تعمى القلوب التى فى الصدور. أما الثمانينيات فقد أفرد لها رواية «الحب فى المنفى» التى وصفها الناقد الكبير الراحل الدكتور على الراعى بأنها «الرواية كاملة الأوصاف». قد لا يعرف الذين كان من حظهم أن يولدوا بعد الغزو الصهيونى للبنان كيف وقع هذا الاجتياح على قلوب المثقفين العرب (أحدهم.. خليل حاوى أطلق رصاص مسدسه على رأسه). من مذبحة صبرا وشاتيلا ينطلق الراوى مرة إلى الأمام مستشرفا مستقبلا لا يقل غموضا عن حاضره ومرة إلى الخلف حيث ذكريات زمن مضى كان فيه محبا محبوبا قبل أن تقول له جريدته «أنت عمالة زائدة» وقبل أن تقول له رفيقة عمره وأم أولاده «وداعا لزمننا القديم وشعاراتنا القديمة». حتى الحب الذى جاء للراوى العجوز على طبق من ذهب لم يفلح فى منع الراوى من أن يتقدم نحو البحيرة ليجرفه التيار إلى النهاية المحتومة، بعد أن سقط كل شىء وبدت الأفكار شائهة وتسلطن أمير جاهل بماله على رقاب الجميع. وكأن الروائى الكبير لم يقنع بكل ذلك التاريخ فراح يبحث عن أصل الداء حتى أوصله بحثه إلى مدافع الاحتلال الإنجليزى تهدم أسوار الإسكندرية، هذا التاريخ تجده فى روايته «واحة الغروب» التى تؤرخ لحقبة جديدة من التاريخ المصرى ولد فيها أناس تحت وطأة الاحتلال ورحلوا والاحتلال كما هو سيد متسلط. ختاما: هل سيعمل جبرتى الرواية العربية قلمه فى تشريح الألفية المعولمة؟ ننتظر ولن يذهب انتظارنا سدى.