الغضب مشروع والانفعال محظور. ذلك أن من حق مصر أن تغضب لمقتل أحد جنود حرس حدودها برصاصة من الجانب الفلسطينى فى غزة. ولها أن تطلب التحقيق فى ملابسات الحادث ومحاسبة المسئول عنه. لكنها ينبغى ألا تستسلم للانفعال بحيث تعزل الحادث عن سياقه والملابسات التى أفضت إليه، وألا تلجأ إلى التهديد والوعيد والتلويح بإعلان الحرب على قطاع غزة، على الأقل فذلك ما فهمته مما نشرته صحيفة الأهرام على الصفحة الأولى أمس الأول (الجمعة 8/1) ونقلت فيه عن مصدر أمنى مصرى قوله: إن قوات حرس الحدود قادرة على حماية حدود مصر، ولديها قدرات وإمكانات لا تستخدمها بالرغم من الاستفزازات، لكن استمرارها غير مقبول. كما نقلت عن المتحدث باسم الخارجية قوله إن لصبر مصر حدودا. وإن أى محاولة أخرى لاستفزاز الأمن المصرى سوف تكون لها عواقبها. ويبدو أن حالة الانفعال كان لها صداها فى تصريحات رسمية أخرى. صدرت على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية، الذى تطرق إلى قافلة الإغاثة التى دخلت أخيرا إلى قطاع غزة، قائلا: إن كثيرين من المشاركين فى تلك القافلة «كشفوا عن حقد أسود وأعمى ضد أبناء شعب مصر» (المصرى اليوم 8/1). وهو كلام ساذج يستغرب المرء صدوره عن دبلوماسى مسئول. ذلك أنه اختزل الشعب المصرى فى الإجراءات الأمنية التى اتخذت بحق الحملة، ثم اعتبر أن انتقاد التعسف فى تلك الإجراءات بمثابة «حقد أسود وأعمى» ضد الثمانين مليون مصرى. وكأن الذين جاءوا من إنجلترا بسيارات قطعت ثمانية آلاف كيلومتر فى رحلة استغرقت شهرا لم يكونوا مشغولين بتوصيل المعونات التى تحملوا لأجلها كل تلك المتاعب إلى المحاصرين فى غزة، ولكنهم كانوا مهجوسين بذلك الحقد الأسود والأعمى. ذلك التخبط فى التصريحات بين التهديد والتنديد كان يمكن لمصر أن تتجنبه، لو أن المتحدثين تكلموا بلغة أكثر رصانة، دعوا فيها إلى التحقيق فى التجاوزات التى تخللت الرحلة، والتى أدت إلى التراشق واستخدام السلاح مما أفضى إلى قتل جندى حرس الحدود المصرى وإصابة عشرات الفلسطينيين. من المفارقات فى هذا الصدد أن مصر تحلت بضبط النفس وتحدثت بمنتهى الرقة والحذر حين قتل بعض جنود حرس الحدود المصريين برصاص الإسرائيليين، وتجنبت بذلك التصعيد الذى يمكن أن يترتب على استخدام لغة التهديد والوعيد. لكن هذه اللغة اختلفت بمعدل 180 درجة حين تعلق الأمر بالفلسطينيين. وقد برر ذلك رئيس تحرير جريدة الجمهورية بتفسير متحيز ومشين حين ذكر فى مقال منشور يوم الخميس 6/1 أن الإسرائيليين يقتلون جنودنا بالخطأ، فى حين أن رجال حماس فى غزة يقتلونهم عامدين! لقد استلفتت المفارقة نظر أحد الخبراء العسكريين الإسرائيليين (عاموس جلبوع رئيس قسم الأبحاث الأسبق فى الاستخبارات العسكرية)، فقال فى ندوة بثها راديو تل أبيب ليلة 18/11 الماضى أن النظام المصرى خرج عن طوره بسبب نتيجة المباراة مع الجزائر، «فى حين أنه التزم الصمت عندما قمنا بحملة «الرصاص المصبوب» فى غزة، ووفر الأجواء لمواصلة تلك الحملة رغم سقوط المئات من الفلسطينيين، كما أنه منع التحرك لصالح الفلسطينيين خلال الحرب... وفى بعض الحالات قتل جنود مصريون وجدوا بالقرب من الشريط الحدودى، لكن الحكومة المصرية لن تقم بأى إجراء». لن أفاجأ إذا برر أحدهم تلك المفارقة المخزية بقوله: إن ثمة معاهدة سلام مع إسرائيل اقتضت ذلك القدر من الحذر والتسامح، فى حين أنه لا توجد معاهدة مماثلة مع الفلسطينيين فى غزة، ولا تستغرب ذلك لأن بئر السقوط بلا قاع.