قال تعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) النور آية 15، هذه الآية العظيمة تنتظم صفوف المسلمين فى الجماعة المسلمة فى عقد الأخلاق، وترسم لوحة المجتمع المتلاحم بألوان طبيعية لا تدارى عيوب الوجوه والأبدان. إن الجماعة التى تدعى أنها تقوم على تربية أفرادها لابد أن ترصد عيوبها ومثالب أفرادها وقياداتها بمصداقية ومنهج علمى وعملى فى آن واحد، وهذا ما فعله القرآن الكريم مع الجماعة الأولى فى عالم الدعوة، ومما لا يخفى على أحد أن هذه الصفة الرذيلة من تناقل الأخبار عبر ألسنة القاعدة متأصلة فى صفوف الحركة الإسلامية المعاصرة على مختلف مشاربها، والحق أن المسئولية هنا مشتركة بين كل من القاعدة والقمة فى مثلث الحركة، ولو عرجنا على تحليل الأمر لوجدنا أن مثالب القمة هى الأعظم جرما والأفدح فى هذا المضمار، حيث إنه يقع على عاتقها تقديم النموذج للقاعدة، وهى أيضا التى يقع عليها عبء التربية والتحلية والتخلية لجميع أفراد الحركة. فى هذه المقالة التحليلية سوف نعرض أهم المشكلات التى تعانى منها القيادة داخل الحركة الإسلامية، غير مغفلين لدورها المهم الذى تقوم به، أو مقصين وجهات النظر الأخرى: تقليص منابع المعلومات: نلاحظ أنه عند السؤال داخل الحركة الإسلامية فى أى أمر خاص أو عام تكون الإجابة الحاضرة: لا نعرف.. سنسأل ونجيب.. وليس فى هذا عيب أن سألوا وأجابوا، لكن الواقع أنهم يذهبون بالسؤال ولا يعودون، ويترك المرء يتقلب بين مصادر معلومات غير موثقة، ويلام فى الوقت ذاته على بحثه عن مصادر أخرى عند غير المسئولين، فلا هم شفوا غليله، ولا تركوه يشفيه، فلا يقبل أن يمنع الناس من الاطلاع على الحدث من الإعلام ومصادر خاصة بدعوى أنها غير موثقة، إذن فليأتوا بالموثق منها الذى غالبا يأتى منحوتا بما يخدم مصالح القيادة لا الحقيقة. تكميم الأفواه: معلوم مسبقا أن ليس كل الناس يرفع الأمر الاعتراضى طوليا أو راسيا إلى مسئوليه ومن يعلوه إداريا، إنما يرفعه فقط من لديه الجرأة على تحمل التبعات من شد ومحاسبة أحيانا تصل إلى تضعيف الانتماء، أو من لديه نفس طويل ليتابع ويلح فى وصول الحمام الزاجل الذى أصبح مهاجرا إلى ديار أخرى دوما، وإن عاد فإنه يأتى بردود حلزونية ومسكنة وإعلامية، وإذا تهور أحدهم أو تساءل أو اعترض على الملأ فله الويل والثبور، فحتما يزجر ويتهم بعدم الانتماء أو القدوم من الشارع كما قصت لى إحدى المسئولات الكبيرات فى أحد أهم قطاعات حركة من أكبر الحركات المعاصرة، والحجة الدامغة عدم إثارة البلبلة بين الصف وكأن العاملين هم أطفال فى الروضة... من عنده بعد روح مثابرة ووثابة أن يستمر فى الرفع لأعلى سوى شكواه لله عز وجل؟ (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا) النساء آية 83. أن رد الأمر رأسيا أو طوليا ليس فضلا من الأفراد، ولا سوء أدب فى الوقت ذاته، بل هو واجب شرعى، واستنباطه أيضا ليسا فضلا من القيادة، إنما هو واجب كذلك، فلا تطلب حقا ليس فى مقابله حق، فلا يقبل أن تخاف القاعدة أو تخوف، ولا أن تتباطأ القيادة أو تصمت طمعا فى نسيان الأمر برمته، فكلاهما يؤدى إلى نتيجة واحدة، ألا وهى سريان الأمر عرضيا، وانتشار الشكوى والنجوى بين الأفراد. غياب الشورى: يفهم كثير من القيادات الوسيطة أن الولاء للقمة يكون بطريقة الحزب الوطنى (من أجلك أنت).. وأنت هنا هى القيادة وعليه فتنفذ الأوامر العليا دون مشاورة للقاعدة المنفذة أو إرساء حوار حقيقى حول آليات التنفيذ ومحاور الخلل فى القرار، بل قد يصير الأمر ديكورا حواريا فى كثير من الأحيان ترى منه لا فائدة من النقاش، إنما هو استكمال لمراسم ما، ويفرض الرأى بدعوى أنه من فوق وفوق برىء من تحت وبهذا تنجح القيادة فى إرغام القاعدة على السير بالأمر أفقيا، ويسرى السخط على القرار بالنجوى، وينفذ القرار بفتور كبير واعتراض أكبر. تماما كما يفعل الناس فى مشاهد بيع البلد والتوريث، وهكذا يتم تربية القاعدة كما تربى الحكومة الشعب. الدكتاتورية المتأسلمة: حيث يرى المسئول إن صلاحيات المرءوسين محدودة وصلاحياته مطلقة، ويرى أن الاعتراض عليه كالاعتراض على الإسلام، ويعنى أنه لا يريد التنفيذ وضعيف الولاء أو قليل الفهم كثير المشاكل، أو.. أو... ويا ويل تقرير المسكين. والأصل فى مثل هذه الأمور أن يتم التمهيد للقرار بالشورى والاستطلاع المسبق لرأى من يناط به تنفيذ القرار، وللأسف فإن الملاحظ أنه حين يحتدم النقاش ويطلب رفع الأمر، يرفع من وجهة نظر المسئول الذى طبعا لا يطلب منه تبنى وجهة النظر المخالفة، ولا يتحدث عن الخلاف إلا وهو يشوه وجهة النظر المقابلة عفوا أو عمدا كل على شاكلته وأحيانا يصل الأمر إلى المنع من لقاء المسئولين الأعلى فيحجب الأمر عنهم... فتكون النتيجة: السير العرضى بالأمر برمته بين الأفراد العاملين فى غير مواقع المسئولية. ضيق الأفق وقلة العلم التخصصى: البعض من القيادات الوسيطة مرة أخرى يكون كلا من إلمامها بعلمى الإدارة والتخصصى فى جزئية العمل محدودا، وأيضا فيما يخص الناحية الثقافية والعلمية عموما، فيمكن أن تولى أمر من هو أكثر منها دراية تحت بند أهل التقوى وبند السمع والطاعة، مما يجعلها أضعف من استيعاب الرأى المتخصص والعميق ممن هم أهلا لذلك، وبالتالى يفقد الأمر حيوية العلم والارتقاء لأعلى، وخصوبة التخصصات المختلفة مما يصيب الرأى العام فى الحركة بالاحباط أحيانا كثر، وثانية تسرى الهمهمة عرضيا. ويجدر بنا هنا أن نتوقف هنيهة حول حادثة فى السيرة سار فيها الأمر رأسيا وأفقيا ولم يعب على صاحبها، بل إن القيادة تابعت الأمر وحين وصلها ما يشفى غليل القاعدة بادرت فورا إلى إبلاغها به وانتهت المشكلة بالطاعة عن قناعة، ألا وهى حادثة اعتراض عمر رضى الله عنه على صلح الحدبيية الذى وقعه الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين فى العام السادس الهجرى، واعترض عمر بن الخطاب على بنود الاتفاق التى رآها مجحفة للمسلمين، ففى الصحيحين أن عمر بن الخطاب قال: فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبى الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألست على الحق وعدونا على باطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار؟ قال: بلى، قلت ففيم نعطى الدنية فى ديننا إذن؟ قال إنى رسول الله ولست أعصيه وهو ناصرى. قلت أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال بلى، أفاخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قلت لا. قال فإنك آتيه ومطوف به. فلم يصبر عمر حتى أتى أبا بكر رضى الله عنه فسأله مثل ما سأل النبى صلى الله عليه وسلم. فقال له با ابن الخطاب،إنه رسول الله ولن يعصى ربه ولن يضيعه الله أبدا. فما هو إلا أن نزلت سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياها. فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟!.... قال: نعم، فطابت نفسه. (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) المجادلة آية 10. وكما أشرنا لأهم مشكلات القيادة، سنشير إلى أهم مشكلات القاعدة فى تصورى، ويمكننا أن نعبر عنها فيما يلى: جهل مغبة النجوى: النجوى هى سريان الكلام أفقيا بين الأفراد دون أن يغيروا من الواقع شيئا، وربما أيضا دون أن تعرف القيادة، ودلائل هذه الآية تشير إلى توابع هذا الأمر من ضيق وهم وحزن، وهذا حتما يضعف الصف. إن للأحداث صدى، ولن يكون هذا محركا للأشياء إلا إذا تجمع وتقوى لأعلى، وإذا سار عرضيا تبدد وتلاشى فى الأثير، فهل يمكن للصف أن يحرك الأحداث ويتحرك رأسيا ويضغط على قياداته بقوة ووضوح دون خوف أو تردد ليغير خطأ يراه واقعا؟ وإذ لم يفعل فلا نتائج سيحصدها إلا الهم والضعف والخوار. الجهل بالصلاحيات: وهنا يبرز سؤال مهم هل الفرد العامل فى المؤسسة يعرف اللائحة الخاصة بها فضلا عن الضامنة لصلاحياته وواجباته فى موقعه؟ إنها من الأسرار الحربية ولا ريب، فلم أر لائحة لحركة إسلامية منشورة بين أفرادها العاملين، ولم أر فردا عاملا يعرفها ليحدثنى عنها، بما فيهم أعضاء النقابات ومجالس الشعب إنما أقرأها فى الجرائد أو الكتب القديمة ولا نعرف هل تم تغييرها أم لا، من حق أى فرد أن يعرف اللائحة، وأن يعترض عليها، ومن حقه أيضا أن يعترض على من فوقه ويصل باعتراضه هذا إلى أعلى مستوى إذا لم يجد حلا ضافيا، ولا ينتظر أن يرفع الأمر فى البريد الصاعد والرد فى البريد الزاجل أو الساعى الماشى على قدميه. هل هى مشكلة القيادة فقط إذن؟ أم أنها مشكلة القاعدة الغافلة عن حقوقها؟ فلن تحل الغفلة هذه بالسير العرضى. النفس القصير: كثيرين من أفراد الصف يعانون من قصر النفس، ويتبارون فى إلقاء اللوم على القمة فى مسارهم الأفقى، وفى نقد البطء الإدارى، والأصل أن المرء يدرء خلل أخيه ما أمكنه ذلك، فيبادر بتحريك البطء ومتابعة المسئول ومساندته فى تنفيذ التكاليف فأصل المسئولية تضامنى، ويجب أن يتحلى فى ذلك بالعزم والإصرار والنفس الطويل، ولا يتعامل مع المؤسسة على أنها الحكومة المصرية المركزية وليس هناك فائدة، بل يعى أن هذا الأمر ربانى ومفتاح الجنة فيه إن شاء الله، فيصر على الحوار واقتناص حقه فى الشورى، ويتابع ولا ييأس ويصل لأعلى وأعلى من القيادات بأدب، ويتابع ويصبر حتى يبصره الله بالحق ويجرى على يديه الخير لأمته. هذا بعضا مما جال بخاطرى وجرى على قلمى تحليلا لهذه الظاهرة النكدة فى صفوف الحركة الإسلامية، لم أقصد إلا وجهه تعالى بها، وعلاج الآفات يأتى بالتمعن فى أسبابها وتلافيها مستقبلا، ولعل الله ييسر لنا وقفة أخرى للعلاج. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.