فى مثل هذا الوقت من العام الماضى، كان مقر حزب الغد الليبرالى لا يزال محترقا بعد محاولة اقتحام من إحدى جبهاته المتصارعة صدتها جبهة أخرى متحصنة بالمقر. ولكن على بعد أمتار من هذا المقر كان أعضاء «اتحاد الشباب الليبرالى» فى مقرهم بشارع كريم الدولة (بوسط القاهرة) يستعدون للاحتفال باليوم العالمى للتسامح ولديهم أمل فى انتشال «الليبرالية» من وسط أخبار المعارك والحرائق بين المختلفين. تأسس الاتحاد كشركة مدنية عام 2007 بهدف العمل على نشر القيم الأساسية لليبرالية مثل التسامح وقبول الاختلاف بين الشباب عبر أنشطة ثقافية، وذلك بعد أن لمس مؤسسوه غياب هذه القيم حتى فى الأحزاب الليبرالية التى كان لهم فيها خبرات «غير مشجعة». يقول باسم سمير، أحد مؤسسى الاتحاد، إنها ليست مصادفة أن كل الأحزاب الليبرالية، الوفد والغد والجبهة الديمقراطية، عانت أو لاتزال تعانى من الانقسام بين جبهات تتنازع على الرئاسة أو تتصارع كل منها على مساحة أكبر من السلطة لإقصاء المختلفين معها، ويعتبر ذلك دليلا على غياب أسس التعامل مع الاختلاف. المفارقة أن اليوم العالمى للتسامح يحل هذا العام وقد لحق بالاتحاد ما كان ينتقده فى الأحزاب الليبرالية التى اعتبر نفسه تصحيحا، فشهد خلافات كبيرة بين مؤسسيه أدت إلى تفرقهم ولكن لايزال عمل الاتحاد قائما. هذا ليس نموذجا جديدا وحيدا، فالمركز الحقوقى «أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف» ومعه نجاد البرعى المحامى الشهير، تقدما ببلاغ مثير للجدل يتهم بعض الكتاب الإسلاميين المعاصرين مثل وحيد عبد السلام بالى بل والتراثيين مثل السيوطى والشعرانى بنشر كتب فيها ترويج للخرافة وازدراء للدين، ويطالب بتطبيق القوانين نفسها التى بح صوت الحقوقيين فى اعتبارها قيدا على حرية التعبير والنشر ومخالفة للتسامح وقبول الاختلاف فى الرأى مهما كان. تكشف تلك المفارقات عن أزمة قيم التسامح والتعامل مع الاختلاف حتى بين بعض من يتصدون لمقاومته، فهم فى النهاية أبناء هذا المجتمع الذى يحتاج لجهود طويلة لإعادة قيم التسامح إلى ساحاته المختلفة. ولذلك لم تعد جهود المنادين بهذه القيم تقتصر على الجانب الحقوقى الذى يطالب الدولة ويناهض القوانين «غير المتسامحة» مع الآخر. بل وبدأ تزايد الاهتمام بالتوجه إلى المجتمع أو البدء من أوساطه عبر مبادرات شعبية. ونظرا لمحدودية نسبة المشاركة السياسية، وغياب مشكلات عرقية كبيرة، فإن الاهتمام بالتسامح الدينى يظل الساحة الأكبر لعملها. من هذه المبادرات كان تجمع «مصريون ضد التمييز الدينى» الذى تمت الدعوة إليه أولا تحت اسم «مسلمون ضد التمييز الدينى» فى 2006 من قبل 200 مثقف وسياسى وأكاديمى من ذوى الميول اليسارية والليبرالية، ولكن بعد تعديل المبادرة ضمت عددا كبيرا من المهتمين بالحريات الدينية ونشطاء حقوق الإنسان. ومن بعدها وثيقة «مواطنون فى وطن واحد» التى وقعها ستة من المثقفين الأقباط فى مايو 2007 ودعوا فيها إلى تبنى قيمة المواطنة فى مواجهة الاحتقان الطائفى. ومن قبلهم كانت مبادرة «مصارحة ومصالحة» التى نظمها عدد من شباب المدونين، بعد بيان مشترك حمل نفس الاسم وقعوه عقب أحداث كنيسة محرم بك فى الإسكندرية عام 2005. وآخر هذه المجموعات كانت أيضا تجمعا لمدونين أعلنوا قبل عام عن مبادرة «شباب ضد التمييز» المناهضة لجميع أشكال التمييز بين المواطنين. يبدو الهدف واحد سواء الذى تقصده المبادرات ذات الطابع الشعبى أو الجهود الحقوقية المؤسسية، لكن ربما يميز عمل كل فريق منهم هو طريقتهم فى الإجابة عن سؤال: من الذى يقود الآخر؟ المجتمع يدفع الدولة التى هى فى النهاية مؤسسات يديرها أفراد من المجتمع فى اتجاه معاكس للتسامح، أم الدولة تقود المجتمع عبر الإعلام والتعليم والقيود على الحريات؟ «إنه سؤال: من أولا، البيضة أم الدجاجة؟» هكذا يراه حسام بهجت، المدير التنفيذى للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، «فمن جانب أنا أرفض تصوير الأمر على أنه دولة علمانية متسامحة تجاهد ضد شعب طائفى، فثلثا الانتهاكات التى تتعرض لحرية الدين والمعتقد تأتى من جانب السياسات والتشريعات والتدخلات القانونية والأمنية من جانب الدولة وأحيانا يؤيدها المجتمع، ومن ناحية أخرى فالثلث الأخير يأتى من جانب المجتمع فى صورة أحداث التوتر أو العنف ذى الطابع الطائفى وأحيانا ما تكون هناك يد للدولة أو تقصير منها». يعترف حسام بهجت أن هناك تداخلا فى تحديد المسئوليات، وهناك مشكلات مشتركة، فعلى الجانب الشعبى هناك حالة من الاستفزاز ضد الاختلاف وهناك رغبة فى تنميط الآخر، ولكن على المستوى الرسمى أيضا بل والقضائى يتصاعد الحديث عن مفاهيم «النظام العام» و«الثوابت» التى يبدو وكأنها تريد توسيع حالة الاتفاق وتتجاهل وجود الاختلافات فى المجتمع. الخوف من الاختلاف، لا يظهر فقط من جانب الأغلبية أو التيارات والمذاهب السائدة، فأحيانا ما يتم تبادل الأدوار ليظهر الضحية فى صورة جانٍ ضد ضحية أخرى. «هذا صحيح، وهو أحد مشكلات العمل فى حقل الحريات الدينية» كما يشرح حسام بهجت «فبينما نواجه التشدد تجاه بناء الكنائس ومشكلات الأقباط، يظهر على الجانب الآخر أن الكنيسة ترفض حرية تأسيس كنائس لطوائف أرثوذكسية أخرى مثل «كنيسة ماكسيموس»، وتساندها الدولة، رغم أنها تعترف بأربع طوائف أرثوذكسية منها الكنيسة القبطية الكبرى». كما كان بعض الليبراليين يفتقرون للتسامح واحترام الاختلاف، فإن الأمر لا يبدو مرتبطا بدين بعينه. هناك فى كل دين من النصوص ما يفسر بأنه دعوة للتسامح، وأخرى تفسر بأنها دعوة لإقصاء الآخرين والحجر عليهم. يحتاج الأمر لتفسيرات أخرى يرجح حسام بهجت أن الأمر يرجع إلى أن الحالة الاجتماعية والاقتصادية المتردية تجعل المجتمع محيطا من الظلم وهو ما يمكن أن يدفع المظلوم إلى نقل الظلم إلى مظلوم آخر فى وضع أضعف منه اجتماعيا كالمرأة والأقليات. يقترب تفسير حسام بهجت من بعض نظريات علم النفس الاجتماعى التى تفسر «التعصب» بأنه نتاج للتغيرات الاجتماعية السريعة التى تلقى بالكل إلى ساحة منافسة عنيفة لا تجعل للتسامح مكانا، أو بأنه نقل الإساءة أو الظلم التى يتعرض لها طرف من جانب قوى لا يمكنه مواجهتها إلى أطراف أخرى، وتسمى هذه النظرية ب«كبش الفداء». ولكن الاتجاهات الأكثر شيوعا لا تنكر العامل الثقافى. وهو ما يؤيده حسام بهجت عندما يضيف «يكمن أحد الأسباب فى أن قيمة المساواة ليست مستقرة فى ثقافتنا بالمقارنة بقيمة العدل، لذا فالظلم الذى يقع على إنسان قد يثير تعاطف الناس، ولكن اختلال قيمة المساواة بين الجميع لا تستفز الترموتر الأخلاقى بنفس الدرجة». فى معظم الأديان وفى الفقه الإسلامى هناك تأكيد عام على فكرة مساواة البشر من حيث الأصل، لكن التشريعات لا تؤكد بالضرورة على المساواة المطلقة بين فرد وفرد متساويين فى المكانة. يؤكد حسام بهجت «لا يمكن إلا أن نعترف أن المساواة بين الأفراد بالشكل الذى نعرفه الآن هى قيمة لم تبدأ فى الرسوخ إلا مع عصر التنوير الأوروبى، لذا فهى قيمة وافدة بشكل ما». ولكن بين العاملين من أجل التسامح وحقوق الإنسان، هناك من يتمسك برؤية توفيقية تجمع بين «القيم الحديثة الوافدة» والدين. داليا زيادة، مديرة مكتب منظمة «المؤتمر الإسلامى الأمريكى» فى القاهرة، ترى أن مهمة المنظمة هى دعوة العالم الإسلامى لتبنى القيم التى صارت محل اتفاق البشرية كلها، متمثلة فى قيم حقوق الإنسان، وبيان أنها فى الأساس موجودة فى التفسير الإسلامى المعتدل أو لا يوجد ما يناقضها. «المؤتمر الإسلامى الأمريكى» منظمة أمريكية غير حكومية بدأت عملها من أجل مواجهة موجة «عدم التسامح» مع الإسلام والمسلمين فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر، ورأت أنه بدلا من محاولة تحسين «صورة» المسلمين، يجب العمل على تحسين أوضاع المسلمين أنفسهم فيما يخص الحريات المدنية والدينية، فوجدت نفسها أمام مشكلة التسامح الدينى. ولكن المنظمة تلقى انتقادات عنيفة، لأنها أمريكية فى الأصل، وبسبب اتهامات بأن مؤسسيها على علاقة بالإدارة الأمريكية، وتتهم بأنها واحدة ضمن موجة منظمات حقوقية نشأت بسبب استعداد جهات متعددة لتمويل أنشطة تحاول «إخضاع العالم الإسلامى» لمعايير الغرب. تنفى داليا زيادة ذلك، مؤكدة استقلال منظمات المجتمع المدنى فى الغرب، التى تتعاون وتنسق أحيانا مع الحكومات فيما يخص بعض الأنشطة، ولكنها لا تنكر أن العديد من المنظمات العاملة فى مجال التسامح تستغل توفر التمويل وتستجيب شكليا لشروطه ولكنها لا تقدم شيئا جديا. «ولكننا لسنا كذلك» تعترض داليا زيادة موضحة: «نحن نحاول بالإضافة للجهد الحقوقى القانونى أن نقوم بأنشطة تحاول نشر ثقافة التسامح بين أوساط المجتمع وخاصة الشباب». تتفق داليا زيادة مع الرأى الذى يقول إن سبب غياب التسامح هو التشدد الدينى الذى يأتى من الطبقات الشعبية وينتقل للمجتمع كله الذى يضطر لمجاراته. ولكن الأب الراهب وليم سيدهم، المدرس بمدرسة العائلة المقدسة وأحد مسئولى جمعية النهضة العلمية والثقافية «الجيزويت»، له رأى معاكس تماما. فهو يرى أن الطبقات الشعبية هى الأكثر بساطة فى تدينها والأقل تعصبا، وهو يتهم المحاولات المستمرة لتسييس الدين سواء من الدولة أو التيارات الدينية بإفساد المجال العام، قائلا: «الغالبية ليست متعصبة، ولكن المتعصبين والغوغائيين منظمون جيدا وصوتهم أعلى سواء كانوا من بعض التيارات الإسلامية أو أقباط المهجر». الأب سيدهم يرى أن ما يمهد الطريق للتعصب هو الجهل بالآخر، إضافة للطريقة الخاطئة التى تتبع فى التربية وتعليم الدين، ويقول «أقوم بحث الطلاب على الاطلاع على الأديان الأخرى وأطالبهم بعمل بحوث عنها، وأحثهم على التأمل والتفكير فى تعاليم دينهم بروح نقدية، أحيانا ما أواجه بالنقد أو أرى فى نظرة بعض الطلاب الاستهجان، ولكنهم عندما يتخرجون يعرفون أنهم تعلموا احترام إيمان الآخرين». يؤكد كذلك الأب سيدهم أنه ينبغى أن نفهم الدين على أنه خبرة وتجربة روحية، فالعقل الإنسانى لا يمكن أن يجزم بوجود الله أو سائر مسائل الإيمان الأخرى. ولكن الأب وليم لا يحب مصطلح التسامح الذى توحى أصوله اللغوية بسلطة ما تمن على آخرين وتتجاوز عن خطأهم، ويجب فى المقابل أن يتحدث عن احترام الحقوق المتبادلة. وهو فى هذا يحذو حذو العديد من المفكرين والفلاسفة الذين رأوا أنه فى كلمة تسامح تكمن سلطة هى التى تتجاوز عن الاختلاف وتسمح به، رغم أن استخدامها المعاصر يميل أكثر إلى التسامح المتبادل بين الأنداد المتساويين. للأب وليم سيدهم كتاب عن «المواطنة عبر العمل الاجتماعى والعمل المدنى» وفيه تكمن رؤيته، فالعمل الاجتماعى يحول الدين من مجرد طقوس وعقائد غيبية إلى طاقة تحرير للإنسان من أشكال الحاجة والضعف. ويحول المواطنة من مجرد كلمة غامضة وافدة، إلى خبرة من خلال خدمة المجتمع كله بكل اختلافاته. ينهى الأب وليم حديثه قائلا: «هناك مقولة أحبها جدا، سأقتبسها من صديقى العزيز الكاتب الإسلامى جمال البنا: الإنسان قبل الأديان، وهذا ما يجب أن يكون عليه الأمر».