بعد سقوط جدار برلين وعملية التوحيد الصعبة التى خاضتها ألمانياالشرقيةوالغربية، انتشرت نكتة تقول: «الأمر أشبه بعودة أعضاء فريق الخنافس The Beatles للغناء معا، لنأمل إذن ألا يقوموا بجولة عالمية أخرى!». وفى تلك اللحظة، كانت رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر والرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران قلقين جدا من نشوء عملاق ألمانى متعجرف يعيد استحضار أشباح الماضى، لكن تبين أن مخاوفهما فى غير محلها. فبدلا من القيام بجولة ترويج عالمية، ركزت ألمانيا الموحدة اهتمامها على الشئون المحلية. وكانت الصور النمطية السائدة فى ستينيات القرن الماضى عندما شهدت ألمانياالغربية معجزتها الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، هى أن البلد عملاق اقتصادى ولكنه قزم سياسى. وبعد 20 عاما من سقوط الجدار والوحدة، لم يتغير الكثير. لقد أدى دمج البلدين إلى نشوء أمة تضم ما يزيد على 90 مليون مواطن، وهى الأكبر بفارق كبير بين بلدان الاتحاد الأوروبى وثانى أكبر مصدر للسلع فى العالم بعد الصين. لكن توحيد ألمانيا كان أكثر إثارة للمتاعب وتعقيدا مما تصوره أى إنسان. فتسلم ألمانياالغربية شئون الدولة الألمانية الشرقية المتداعية كان أشبه بالتهام أفعى لكلب مريض. والنتيجة هى عملية عسر هضم مؤلم جدا، أدى إلى سبات بدلا من التباهى والازدهار على الساحة العالمية. هذا التوحيد جعل ألمانيا أكثر اهتماما بشئونها الداخلية وليس أقل. فجمهورية ألمانيا الديمقراطية القديمة كانت مثال الدولة الحاضنة. ما زلت أتذكر لقاء أقربائى من ألمانياالشرقية للمرة الأولى بعد بضعة أسابيع من سقوط الجدار. العم وولفجانج، وهو اختصاصى كهرباء ناجح، كان مذعورا من الحريات التى فرضت عليه وعلى عائلته. وقد قال متذمرا: «ما الذى سيحصل لنا الآن؟» فى خطاب إلى الأمة بعيد توليه منصبه، قال هانس مودرو وهو آخر رئيس وزراء شيوعى فى ألمانياالشرقية بوقار: «أيها الرفاق، لا تقلقوا، فمخصصاتكم فى أمان!». أولئك الذين افترضوا أن ألمانيا الموحدة ستعود إلى نزعاتها التسلطية لم يفهموا أن خبرة البلد مع التفكك الإقليمى كانت أطول وأسعد من خبرته مع القومية المتطرفة. اتحد البلد لأول مرة عام 1871 فى ظل حكم المستشار الحديدى والأسطورى بسمارك. منذ ذلك الحين، أمضى 10 سنوات يخوض حربين عالميتين ويخسرهما وأكثر من أربعة عقود منقسما. وبعد عام 1945، قسم الحلفاء الظافرون ألمانيا إلى أربعة أجزاء محتلة. وأصبحت بلدة بون الصغيرة والجميلة عاصمة الأجزاء الغربية الثلاثة، وأنقاض برلينالشرقية عاصمة الجزء المحتل من السوفييت. وكان الهدف من تلك الخطوات هو تقويض أى طموحات قومية مستقبلية. كانت ألمانياالغربية ذات هيكلية فيدرالية، حيث تتمتع الولايات التى تشكل الاتحاد بسلطة كبيرة لفرض الضرائب واعتماد سياسات خاصة بها فى مجالى النقل والتعليم. حتى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة الألمانية تم تقسيمها إلى أقسام إقليمية للحول دون انبثاق ماكينة مركزية لبث الأفكار من أشلاء مسخ البروباجندا الذى أنشأه جوبلز. والدى، الذى عمل لدى شبكة البث الجنوبية الغربية الألمانية، فسر لى ذات مرة سبب عدم استعمال مذيعى الأخبار الألمان الملقن الآلى عند قراءتهم النشرة الإخبارية: «هذا يجعلهم يبدون خارقين وملمين بكل الأمور، وكأنهم قادرون على حفظ كل المعلومات عن غيب والنظر مباشرة فى أعين المشاهدين. نحن لا نريد خداع الجمهور». وبينما شعر الكثير من مواطنى ألمانياالشرقية بالارتياح لأن الحزب الشيوعى احتضنهم، فإن الكثير من مواطنى ألمانياالغربية شعروا بالراحة فى دولة فيدرالية حيث الهوية الإقليمية مهمة، وحيث الاتحاد الأوروبى مرحب به ولا يشتم لأنه يقيدهم. لقد قال لى هلموت كول، المستشار الأول لألمانيا الموحدة وكبير مهندسيها، بحماسة ذات مرة، إن الاتحاد الأوروبى سيضمن ألا تتبع ألمانيا مسارا خاطئا من جديد. هل يمكنكم تصور رئيس حكومة فرنسى أو بريطانى يقول الأمر نفسه؟ ضيق الأفق هو نتاج التاريخ الألمانى، ومتجذر فى الدستور الفيدرالى، وجزء لا يتجزأ من تركيبة الأمة. مع مرور الزمن، لم يعد من السهل الحفاظ على هذا الموقف. بل سيكون أمرا مثيرا للاهتمام مثلا رؤية الكيفية التى ستتغير بها وجهات النظر إذا أعلن باراك أوباما عن زيادته التالية لعدد الجنود الأمريكيين فى أفغانستان وقام بالضغط على ألمانيا لتحذو حذوه. لكن حاليا، تكتفى ألمانيا بالبقاء فى الكواليس. ففى عام 2006، استضافت ألمانيا بطولة العالم لكرة القدم. وصل الفريق الوطنى إلى المباراة نصف النهائية ثم خسر أمام الفريق الإيطالى. فشعر البلد كله بخيبة الأمل، لكنه لم يستسلم للإحباط. وقد وصفت والدتى الأمر على هذا النحو: «كانت بطولة كرة قدم رائعة. وأظهرت ألمانيا حقا أفضل ما لديها»، لكنها قالت لى مستدرجة: «فى الحقيقة، أنا سعيدة لأننا لم نصل إلى المباراة النهائية ونفز بها. لو أننا احتللنا المرتبة الأولى، لما استطاع العالم تحمل الأمر!». Newsweek